الاثنين، 18 يوليو 2011

مقترحات لتطوير التعليم بالسلطنة


        تابعت بسعادة غامرة التوجيهات السامية من لدن العاهل المفدى جلالة السلطان المعظم بالمضي قدماً في استيعاب المزيد من الطلاب والطالبات من مخرجات التعليم العالي، وبإنشاء جامعة حكومية ثانية تقوم على أسس مدروسة وتركز على التخصصات العلمية، واستعادت ذاكرتي توجيهات سابقة بتخصيص (1000) منحة دراسية خارجية على مستوى الماجستير والدكتوراه في عدد من المجالات العلمية الحيوية التي تحتاج إليها قطاعات العمل في السلطنة ، وزيادة عدد البعثات الداخلية بنسبة  165% عما كان مخطط له ، وقبلها التوجيهات السامية في عام 2007 بمنح مبلغ قدره (17) سبعة عشر مليون ريال عماني للجامعات الأهلية القائمة، وغيرها الكثير من التوجيهات السامية التي تعطي لقيمة العلم في هذا البلد الشيء الكثير.

     وبلا شك فإن تلك التوجيهات السامية تحمل الكثير  من  الدلالات الاجتماعية  والاقتصادية المهمة ، وتؤكد على  مدى حرص جلالة السلطان واهتمامه البالغ بمسألة دفع المسيرة التعليمية في البلاد، وعلى النهج السامي لجلالته حول اتخاذ العلم الطريق الأمثل  لتشكيل الإنسان،  ونقله نحو الآفاق الحضارية ، مع  الاحتفاظ بالقيم الأصيلة للشعب العماني.
     ولعل هذه التوجهات أضفت لدي الكثير من الراحة النفسية، فأنا المهموم بهذا الموضوع منذ سنوات طوال، وبالذات منذ فقداني لعديد من أصدقاء جيل التسعينيات من القرن الماضي الذين لم تسمح لهم نسبهم (السبعينية) بالالتحاق بجامعتنا الوحيدة، ولا بكليات التربية حلم الطلبة العمانيين في فترات طويلة، وبالتالي تدهورت أحوال بعض أولئك الأصدقاء نفسياً واجتماعياً وأخلاقياً، بسبب اليأس من أن يصبحوا أفراداً (محترمين) على حد رأيهم، ومن نظرة المجتمع إليهم بأنهم عالة أو زيادة عدد لا نفع منهم، وكل جريرتهم أنهم لم ينضموا لنادي (التسعينيات) الذي يكفل لهم أن يكونوا ( أفراداً صالحين)، مع تجاهل تام لظروف أولئك، وظروف مجتمعهم وأسرهم، ودون إدراك صادق لإمكاناتهم الحقيقية، وكأن النسبة هي من يحدد مدى مساهمة الفرد في مجتمعه.
كنت أتألم وقتها عندما أتأمل أرجاء جامعتي الفسيحة وأتساءل: ترى كم جامعة أخرى يمكن أن تنشأ بقيمة المبلغ الذي بنيت به؟ ألم يكن من الممكن أن يكون أصدقائي معي في ذات الجامعة أو غيرها بدلاً من تسكعهم الآن في حواري ولايتهم؟

      كما كنت أتابع تصريحات بعض مسئولينا حول تناسب أعداد المقبولين في الجامعة وكليات التعليم العالي مع فرص سوق العمل بذهول. وأتساءل للمرة الألف: هل سوق العمل أهم من فقداننا لكثير من خيرة شبابنا ؟ وإذا كانت فرص العمل محدودة فمن أين أتى آلاف الوافدين الشاغلين لأفضل الوظائف خاصة في القطاع الخاص؟

     ولو حللنا ظروف بلدنا الاقتصادية تحليلاً شاملاً دقيقاً، لوجدنا أنه لا خيار لمستقبلنا سوى بالاهتمام بالعلم والتعليم، فلا نحن نقع على بحيرات عائمة من النفط أو الغاز تكفينا للعيش في بحبوحة  سنوات طوال قادمة، ولا نحن بلد زراعي لديه اليد العاملة الكافية،  والثروات المائية الكافية، والأرض الخصبة التي تضمن مداخيل جيدة لقطاع كبير من السكان، ولا نحن دولة صناعية تكفي صادراتها لتؤمن الاستقرار الاقتصادي، بل نحن على العكس من ذلك كله، فعدد سكاننا القليل، وثروتنا المائية الشحيحة، ومواردنا المعدنية القليلة، وتحديات توفير البنية التحتية لبلد استلمها قائد النهضة بلا معالم تنموية واضحة  باستثناء بضعة مدارس ومستشفى يغلب عليهن طابع البدائية ، كلها عوامل تجعلنا نفكر في التنمية البشرية كأنسب الحلول، خاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار تاريخ عمان الطويل مع العلم والعلماء، وتجانس الشعب العماني، وارتباطه ببلده، وولائه لقائده.

نعم، نحن نستطيع أن نجعل من بلدنا في مصاف الدول المتقدمة في المنطقة، بل وفي العالم، إذا ما جعلنا العلم هو  طريقنا الأمثل، وتحقيق هذا الهدف يستلزم منا شيئاً من التخطيط الجيد، وكثيراً من العمل الجاد، فلا تكفي زيادة عدد الجامعات الحكومية والخاصة، أو كثرة  عدد معاهد التدريب المهني وكليات التقنية العليا، أو ارتفاع نسبة عدد البعثات، إذا لم يصاحب ذلك كله تحديداً دقيقاً  للأهداف من كل ذلك، وتغييراً في الفكر لدى المجتمع ككل حول أهمية التعليم كاستثمار طويل المدى قد يغنينا عن كثير من الثروات الطبيعية، وأن يعي الطالب أهمية اختيار التخصص المناسب لفكره ومهارته، وألا يستهين بأي نوع من التدريس ما دام قادراً على صقل مهاراته وإبراز إمكاناته، وما دام قادراً على إضافة ما يجعله يخرج إلى المجتمع قرداً مهماً منتجاً.

       يستلزم منا تحقيق ذلك أن نبدأ من الأساس ، وأن نحدد الأهداف العامة التي نريد انجازها، أي بمعنى ماذا نريد من هذا المنتج بعد نحو 16 سنة من التعليم المدرسي والجامعي، وما درجة الجودة المصاحبة له والتي تؤهله لكي ينافس في سوق العمل، وهذا الأمر يتطلب إعادة نظر في المناهج الحالية بأهدافها ومحتواها وأنشطتها، ويتطلب كذلك دراسة أوضاع المعلمين بجدية، والعمل على توفير الاستقرار النفسي والمادي الذي يضمن لهم القيام بعملهم على أكمل وجه، وتطوير مستوياتهم المهنية والاجتماعية، ويتطلب أيضاً العمل على تعزيز قيم المواطنة لدى الطلبة، والتركيز على أساليب الحوار والتعلم الذاتي لديهم، فكثير من طلابنا بلا هوية واضحة، وبلا هدف ينشده، وليس لديه تخطيط مسبق وواضح لما سيفعله بعد انتهاء 12 عاماً من التعليم المدرسي، بينما ابن صديقي الآسيوي والذي ما زال في الصف العاشر قد حدد لوالده نوعية الدراسة الجامعية  التي يريدها، واسم البلد التي يود إكمال دراسته بها، وبرر له أسباب ذلك، ووالده قد أخذ كلامه بشيء من الجدية واستعد لتوفير مصروفات ابنه، لذا لا عجب أن تغدو بلدهم في مصاف الدول المتقدمة تكنولوجياً، وتصبح قبلة للشركات المتخصصة في تقنية المعلومات على مستوى العالم، ولن نتعجب أكثر لو علمنا أن الشركات الأمريكية المشهورة في مجال تكنولوجيا المعلومات تستقطب سنوياً ما لا يقل عن 5000 مبرمج هندي، وبعضهم يظل لسنوات محددة ثم يعود لتأسيس شركته الخاصة في بلده.

    يستلزم منا كذلك إيجاد شراكة حقيقية بين القائمين على شئون التعليم المدرسي، ونظرائهم في التعليم العالي الخاص والحكومي من حيث الاشتراك في وضع البرامج وتقييمها، وتبادل الخبرات، والاشتراك في برامج الإنماء المهني المتعددة، ومن حيث التركيز على أهمية التحاق الطالب بالتخصص المناسب لإمكاناته وقدراته وليس لمجموعه فقط، ووضع معايير تقيس مدى رغبة أو قدرة هؤلاء الطلبة على الالتحاق بالتخصصات التي يريدونها، لأن العملية التعليمية ينبغي أن تكون متصلة طوال فترة الدراسة في المرحلتين بنفس الأهداف العامة دون فصل بينهما.

    يستدعي كذلك أن تتغير النظرة تجاه التعلم التقني والمهني، فمازالت شريحة من المجتمع تنظر  لهذا النوع من التعليم  نظرة دونية، وأنه مكان من لا مكان لهم بين أروقة الجامعات، وللأسف فهذه النظرة لم تتغير كثيراً منذ فترة طويلة، ومازلت أتذكر العشرات من المعارف ممن تركوا هذا النوع من التعليم لحجج واهية، دون تبصير حقيقي بأهميته من قبل الأطراف المعنية سواء كانوا أهلاُ أم وسائل إعلام، أم مسئولين عن هذا النوع من التعليم، متناسين أن المجتمع لا يقوم بدون مخرجات هذا النوع، وغير مدركين أن بعض الدول قد تقبل السباك أو النجار أو الميكانيكي الماهر للهجرة إليها، وفي نفس الوقت قد ترفض حامل شهادة الدكتوراه في أحد التخصصات الإنسانية، لأن هذه المجتمعات تدرك جيداً أهمية هذا النوع من التعليم، ومدى تأثيره في المجتمعات المتقدمة المتواصلة النمو الاقتصادي، ولربما يعود جزء من هذه النظرة الدونية لدينا تجاه التعليم التقني إلى ضعف الاهتمام به في مدارسنا في ظل نظام حصص لا يسمح كثيراً بأن نكشف عن إمكانات الطلاب المهنية، خاصة بعد إلغاء نظام التعليم الثانوي التجاري والصناعي والزراعي الذي كان مطبقاً في فترة من الفترات.

        يستدعي ذلك مراجعة أنظمتنا التعليمية من فترة لأخرى، للتحقق من مدى مواكبتها للتطور الحاصل في المعلوماتية، والاطلاع على تجارب الدول التي قدمت نماذج مجيدة في الاستثمار في مجال  التنمية البشرية، وأخذ المفيد من هذه التجارب بعد تطويعها لتتماشى مع واقع المجتمع العماني وخصائصه المختلفة.
يتطلب أيضاً التفعيل الجيد للتكنولوجيا في التعليم، فمازالت كثير من الأسر لا تقتني  جهاز حاسوب واحد، ومازال التعامل الورقي سائداً، ومازالت كثير من أنماط التعليم تعتمد على التلقين والحفظ والمحاضرة.

يستلزم منا أيضاً الاهتمام بالبحث العلمي بشكل جاد، وتخصيص ميزانيات مفتوحة لتمويل المشاريع والبحوث المختلفة، وتوفير المطبوعات العلمية المحكمة، فبلدنا زاخرة بالكثير من الخبايا المهمة في كافة المجالات، أين نحن مما تحويه بحارنا وصحارينا وجبالنا وسهولنا وودياننا، وأين نحن من تراثنا الزاخر بأنماط الثقافة المختلفة.

يستدعي ذلك تخصيص يوم للعلم، تخصص فيه جوائز على أعلى مستوى  لتكريم المجيدين في مجالات العلم المختلفة سواء كتشجيع للبعض، أو كتقدير للبعض الآخر، وتعرض فيه آخر ما توصلنا إليه من نتائج  لمشاريعنا ودراساتنا وبحوثنا المتعددة.

     يستلزم الاستفادة من العشرات من الباحثين والمتخصصين القابعين خلف المكاتب، والذين ينتظرون من يحن عليهم بدعوتهم لندوة، أو للاشتراك في بحث، أو لإلقاء محاضرة، أو لعرض نتائج ما قام به من دراسة في إحدى مجالات المعرفة المتنوعة.

يستلزم برامج إعلامية موجهة،تبدأ من الناشئة، تفعل الحوار، وتعرض للنماذج المجيدة من أبناء الوطن، وتناقش ما يتم تجميعه من ملاحظات قد تثري العملية التعليمية، وتجعل الشباب أكثر وعياً بأهميتها وأهميتهم في تشكيل مستقبل وطنهم، وتكون عوناً لصانع القرار من خلال ما تطرحه من رؤى وأفكار بناءه.
يتطلب كذلك مشاركة جادة من القطاع الخاص وأصحاب رؤوس الأموال، فلا يكفي أن نتبرع لبناء مسجد فقط، أو لدعم فريق الكرة بالنادي الفلاني، ما الذي يمنع لو تبنى بعض المقتدرين تدريس عشرة طلاب كل سنة على سبيل المثال، أو لو خصصت بعض المؤسسات نسب محددة من إجمالي دخلها لدعم العملية التعليمية في المجتمع المحيط بها.

يتطلب الاهتمام بالتعليم أشياء كثيرة قد لا تكفيها عشرات المقالات.. الأهم من هذا وذاك هو أن نعي بصدق أن العلم هو طريقنا الحقيقي والمضمون للحفاظ على مكاسبنا التي تحققت، ولضمان الرخاء الذي تحقق، فبلد الخليل وابن القاسم وابن دريد والسالمي  وغيرهم ممن سطرت كتب التاريخ أسماؤهم مقترنة بعمان لقادرة على إنجاب أسماء أخرى يكون لها السبق في مجالات العلم المختلفة، تكمل مسيرة من سبقها، وتستحث من يليها على مواصلة السير في نفس الطريق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.