في أحد أعدادها السابقة، طالعتنا جريدة عمان بتحقيق مؤلم يتعلق بإحدى المسنات، وهذا الموضوع يجعلنا نتناول قضية التكافل الاجتماعي وأثرها في المجتمع العماني.
في كتابه المهم والذي يتناول جوانب من الملامح الاجتماعية والثقافية والاقتصادية لولاية صور، ويعرض نماذج لعدد من أبناء الولاية في مجالات الإدارة والأدب والتعليم والطب التقليدي، تناول الباحث حمود بن حمد الغيلاني قضية التكافل الاجتماعي بشيء من الاهتمام، وأشار إلى عدد من مظاهر هذا التكافل لدى المجتمع العماني، ككفالة كبار السن والاهتمام بهم من قبل الأبناء والجيران والأقارب، وكفالة الصغار والأيتام حيث كانت كثير من الأسر المقتدرة تحتضن اليتامى وتحرص أشد الحرص على الاهتمام بهم وحماية حقوقهم، كما كانوا يولون الأطفال والصغار من أبنائهم اهتماماً خاصاً من حيث التربية وتعليم القرآن الكريم والعبادات وحقوق الأسرة والمجتمع.
كما اهتموا بكفالة الفقراء والمساكين،فقد كان الكثير من الميسورين يقومون بزيارات ليلية لتقديم العون والمساعدة لبعض الأسر المحتاجة، حيث كانوا يطرقون الأبواب ويضعون الأموال أو المواد الغذائية والملابس أمام الأبواب قبل خروج أهل البيت لمعرفة من أتى بهذه الحاجات، إضافة على التزامهم بإخراج الزكاة وتوزيعها، واهتمامهم الكبير بزكاة الفطر ، حيث يتم إخراجها قبل أيام العيد ليستعد الفقير واليتيم والمسكين للاحتفال بالعيد أسوة بالمقتدرين، كما أن ثلث الأضحية في العيد الكبير يوزع كاملاً على تلك الفئات المحتاجة .
كما اهتموا برعاية حقوق الجار،كزيارته في المرض، ومشاركته في الأفراح والأتراح، وكانت لا توقد نار طبخ إلا ولهذا الجار نصيباً مما طبخ في بيت جاره، سواء أكان هذا الجار فقيراً أم غنياً.
كما كانوا يولون الضيف والغريب اهتماماً ورعاية قصوى، بغض النظر عن كونه قاصداً للزيارة أم غريباً، وكانت مجالس البيوت عامرة بزوارها، وكان الضيف عندما يحل في منزل أحد الأشخاص يعتبر ضيفاً للجميع، حيث كان الكل يتسابق على الاحتفاء به، ودعوته للضيافة، ومساعدة المضيف للقيام بكافة واجبات الضيافة اللازمة.
والحقيقة أننا كجيل قد عايشنا بعضاً من مظاهر هذا التكافل، قبل أن تمتد يد العولمة لتغير كثيراً من الملامح الجميلة للمجتمع ، أذكر أني كنت صغيراً عندما ذهبت والدتي للحج لأول مرة، وبما أنني أصغر أبنائها، فقد كنت أرى نظرات العطف والاهتمام في عيون جاراتنا تجاهي، وكنت أحظى بمعاملة خاصة من قبلهن، كي يعوضنني عن فقدان حنان الأم،كما أتذكرهن وهن يملأن أرجاء البيت تنظيفاً وترتيباً عند رجوع والدتي، كما أتذكر عشرات الأسماء الغير مشطوب عليها في دفاتر حسابات والدي التاجر، وعندما كنت أسأله ببراءة الطفولة عن سبب عدم دفعهم لما عليهم، كان يقول لي: لو كان معهم لسددوا ، لا تنس أنهم جيراننا. وأتذكر كذلك تسابقنا كإخوة على توزيع بعض ما يحضره الوالد رحمه الله أو أحد الإخوة الكبار من سفر ما على جيراننا وأقاربنا، كما أنه لا يمكن أن تقام وليمة منزلية ما دون دعوتهم ، وكنا نتبادل مع جيراننا ما تجود به موائد طعامنا اليومية، وكانت من المرات النادرة أن يأتي يوم الجمعة ونتناول طعام الغداء في عدم حضرة أحد من معارف العائلة أتى من قريته البعيدة لتأدية صلاة الجمعة، وذلك لعدم توافر مسجد جامع في مكان سكنه، وكان الجيران والأقارب يمتنعون عن مشاهدة التلفزيون أو الاستماع للأغاني لمدة ثلاثة أيام عند وفاة أحدهم من باب الاحترام والتضامن مع أسرته في مصيبتها، كما كانت البيوت مفتوحة في كل وقت دون تحفظ كئيب كما هو حادث الآن، وكانت من العادات الاجتماعية الرمضانية الجميلة التي لا يمكن نسيانها هي مظاهر الإفطار الجماعي للرجال والنساء والصغار، كل على حدة، في جو حميمي يوحي بمدى الترابط والتلاحم، وكان أفراد المجتمع الواحد يتشابهون إلى حد كبير في ملابسهم وأنماط سكنهم، دون تمييز بين فقير وغني، كما كان سكان الحي عندما يفتقدون أحد جيرانهم في بعض الصلوات يذهبون للسؤال عنه للاطمئنان، ومازلنا نتذكر توجيهات وتأنيب، بل وتأديب بعض جيراننا أو أقاربنا الكبار لنا في حالة القيام بسلوك خاطئ ما في عدم حضرة ولي الأمر، دون خوف من غضب الوالد أو زعل الأم،حيث لم تكن مظاهر التحفظ، واللامبالاة قد انتشرت بعد في المجتمع،لذا لم يكن غريباً أن نقابلهم بمظاهر الاحترام والتقدير والتوقير، فجارنا نطلق عليه (أبويه) أو عمي فلان، وزوجته هي أمي أو عمتي أو خالتي فلانة، مما ساهم في توطيد العلاقات الإنسانية بين أبناء المجتمع، وأكسبهم التلاحم ، وزاد من روابط التواصل الجميل.
كثيرة هي المواقف الجميلة التي أتذكرها ويتذكرها كثير ممن عايش تلك الأيام، قبل أن يدور الزمن دورته، ونفقد بعضاً من قيمنا وعاداتنا الجميلة في عدد من أنماط العلاقات الإنسانية، لحجج واهية، كأن ندعي أن الزمن قد تغير، أو أننا نعيش عصر السرعة، أو أن الكل مشغول بهمومه وحياته، أو أنه لم يعد هناك من يحتاج لأحد في هذا الوقت، وفي الواقع أن كل هذه الحجج واهية، فنحن من عقد حياتنا بإدخال كثير من أنماط الحياة الغريبة عن مجتمعنا، ونحن من نشغل أنفسنا بكثير من الأعباء الغير مهمة في بعضها، فالمجتمع هو المجتمع، والناس هم أنفسهم، والأقارب والجيران وكبار السن والأيتام والأرامل والفقراء ما زالوا موجودين، بل إن التغيرات المجتمعية المختلفة التي طرأت بسبب نمط حياتنا الجديد قد أدى لوجود حاجة ملحة للتكافل الاجتماعي ربما أكثر مما كان عليه سابقاً، فكثير منا يشكي هم الديون، وهموم أمراض العصر، والوحدة، وغيرها من الهموم، فما الذي يمنع أن نعيد تنظيم حياتنا الاجتماعية على أساس سليم، وأن نستلهم من تجارب الذين سبقونا الشيء المفيد لمجتمعنا، فهم لم يهتموا بمظاهر التكافل إلا عندما أحسوا أنهم كمجتمع لن يستطيعوا العيش في أمان اجتماعي دون تفعيل مظاهره.
نعم، ربما تكون كثير من الظروف قد تغيرت، وربما تحسنت الظروف الاقتصادية لدى كثير من الأفراد مما جعلهم يشعرون باستقلالية عن الآخرين، وربما اعتقد البعض أن الخدمات الحكومية بإمكانها أن تحل مكان المجتمع في تقديم الرعاية والاهتمام للفئات المحتاجة، ولكننا بذلك نتناسى أننا مجتمع عربي إسلامي له خصوصيته الثقافية والاجتماعية المستمدة من تعاليم الدين الإسلامي الحنيف، وتميزه قيم أصيلة حفظت لهذا المجتمع روحه وترابطه وتماسكه على مدى سنين طويلة، لذا لا يمكن لنا أن نتخلى بكل بساطة عن هذه القيم لمجرد شعورنا بعدم الحاجة للآخر، أو لأن هناك جهات يمكنها أن تقوم بدور الرعاية الاجتماعية، فنجاح أي مجتمع يعتمد على مدى التعاون بين صناع القرار وبين المجتمع، وبدونه لا يمكن لأي طرف أي يقوم بمهمته على أكمل وجه.
أتمنى أن نراجع أنفسنا كمجتمع متعلم نال من أدوات العلم والثقافة الشيء الكثير ، وأن نحافظ على ما تبقى من ملامح قيمية أصيلة لدينا، وأن نحاول استعادة ما ذهب منها، والوسائل التي ينبغي إتباعها لتحقيق ذلك كثيرة ومتنوعة، والأهم من هذه الوسائل هو الاعتقاد الحقيقي بأهمية عودة كثير من المظاهر الاجتماعية إلى مجتمعنا، وضرورة وجودها، كي لا يتحول هذا المجتمع إلى كيان بلا روح أو طعم، وما قد ينتج عن ذلك من كثير من المشاكل الاجتماعية التي عانت منها عدد من المجتمعات الغربية، والتي بدأ بعضها في محاولة دراسة الإسلام علهم يجدوا في قيمه ما يعيد لمجتمعاتهم كيانها وترابطها بعد عقود طويلة من التفسخ الاجتماعي بسبب اعتقادهم أن الحضارة المادية هي الغاية.
وأختتم مقالي هذا بموقف ذكره أستاذنا حمود الغيلاني في كتابه، والذي يدل على مدى التكافل الاجتماعي الذي كان سائدا في المجتمع العمانيً ، ويتعلق بأحد تجار مدينة صور الميسورين، كان يضرب به المثل في الثراء ، وفي نفس الوقت كان رجل خير وبر وعرف عنه مساعدته لأبناء مدينته، حتى لقب "بجابر العثرات"، حيث كان عائداً إلى منزله في مساء أحد الأيام برفقة أحد العاملين معه، وبينما كان يمر ببيت من السعف ، سمع امرأة تحاول تهدئة أطفالها الذين مسهم الجوع، فقالت لهم: ناموا، وهل أملك أنا أموال فلان؟ فما كان من هذا الرجل إلا أن رجع إلى بيته في ساعتها، وأمر عامله أن يحمل كل ما تحتاجه تلك الأسرة من أرز ودقيق ودهون وغيرها، وأن يترك ما يحمل في ساحة البيت وأن ينصرف دون أن تدري صاحبة البيت من أتى بتلك الحاجات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.