الجمعة، 15 يوليو 2011

"السيارة الخاصة..غاية أم وسيلة"

في كتابه" ماذا حدث للمصريين" يسرد الدكتور جلال أمين قصة جميلة عن والده العالم الكبير أحمد أمين ، والذي برغم تيسر حالته المادية فإنه رفض أن يشتري سيارة  خاصة به إلا بعد أن اضطراره لذلك بسبب بعد مكان عمله، وذلك بالرغم من تيسر الأمور في تلك الفترة(الثلاثينات من القرن العشرين)، وقلة الازدحام في الشوارع، ورخص ثمن السيارات وقتها.

ويمضي الدكتور جلال أمين ليذكر أنه وبالرغم من أن والده قد اشترى السيارة،  إلا أنه (جلال) أو أياً من إخوانه  لم يفكروا يوما أن يسوقوها أو أن يذهبوا بها في مشاوير خاصة، أو أن يتباهوا بها أمام زملائهم، ذلك أن النظرة للسيارة وقتها تكمن في كونها وسيلة وليست غاية أو مدعاة للتباهي.

تغير الزمن الآن، وتغيرت كثير من القناعات الشخصية والمجتمعية، وأصبحت السيارة لدى الكثيرين ضرورة اجتماعية ملحة، ومظهراً من مظاهر التغير، وأصبح أمام كل بيت عدد من السيارات لا يعبر عن الاحتياج الحقيقي لها، وأصبحت السيارة كالموبايل، والعطر، واللابتوب...وغيرها.وسيلة تباهي لا ضرورة.

     ويبدو أن هناك أسباباً عدة لظاهرة الانتشار الكثيف للسيارات الخاصة، والتي قد لا تعبر بالضرورة عن حالة رخاء اقتصادي مرتفع، في ظل ارتفاع لمعدلات التضخم، وزيادة أسعار كثير من السلع الأساسية والكمالية، ولعل من بين هذه الأسباب هو  أن السيارة أصبحت  من أكثر السلع فعالية في التعبير عن الصعود الاجتماعي، وأصبح العجز عن اقتنائها دليلاً  على الفشل لدى البعض، كما أن بعضهم يرى فيها تعبيراً واضحاً ودعاية كبيرة لما يمتلكونه من وجاهة أو مكانة معينة قد لا توفرها لهم أشياء أخرى يمتلكونها كنمط المسكن أو نوعية المأكولات، أو غيرها.
        كما أن من أسبابها كذلك، انتشار ظاهرة المحاكاة لدى البعض،  أو رغبتهم في التميز عن الآخرين ، أو على الأقل عدم الإحساس بأنهم أقل منهم إمكانية ، فبعضنا يرى أنه ليس أقل من جاره أو صديقه أو زميله الذي اقتنى سيارة ما، ولذا تجده يسعى بشتى الطرق لامتلاك سيارة خاصة بمواصفات رفاهية عاليه، دون التفكير في ما قد تجره هذه الخطوة من نتائج سلبية، ودون وعي أو إدراك بأن المباهاة والتنافس الحقيقي هو في مدى جودة العمل والإنتاج، وفي قدرتنا على تطوير أدائنا وإمكاناتنا الذاتية، لا التباهي بأمور مادية قد تتغير أهميتها بتغير الزمن.
وهذه النظرة الاجتماعية القاصرة ربما لا توجد بهذا الشكل المبالغ فيه في كثير الدول المتقدمة التي تقدس العلم، وتجل قيمة العمل،  كما هو الحال لدينا، فكثير من الناس هناك أحوالهم المادية جيدة ،ولكنهم لا ينظرون إلى السيارة كغاية، وإنما كوسيلة قد يضطرون إلى امتلاكها، بل إن بعضهم لا يكاد يغير سيادته إلا لأسباب قاهرة، ولا يهتمون كثيراً بمدى رفاهية السيارة بقدر اهتمامهم بمدى عمليتها، ومناسبتها لظروفهم العملية والحياتية، وبعضهم يستخدم الدراجة الهوائية، وآخرون يستخدمون وسائل المواصلات العامة.
هناك يمكن أن تقابل أناساً محترمين للغاية وهم يقرؤون الجريدة في إحدى وسائل المواصلات العامة، أو واقفين على محطة الباصات ينتظرون وصول احدها، دون خجل أو خوف من أن يراهم أحد معارفهم فيقلل من شأنهم، أو ينظر لهم نظرة دونية.
كما أن ضعف الاهتمام بوسائل المواصلات العامة كالباصات بأنواعها، وخطوط الترام، والقطارات يجعل الاتجاه إلى اقتناء السيارة الخاصة لدينا أمراً مهماً لدى شريحة كبيرة، وحتى لو وجدت بعض هذه الوسائل بالفعل، كالباصات مثلاً إلا أننا نصطدم بنظرة البعض السلبية تجاه استخدامها، والذي يمكن أن نرده إلى ضعف الثقافة الشخصية، وانتشار ظاهرة الثقافة الاستهلاكية في مجتمعنا، معللين ذلك بأنها تقلل من قيمتهم الاجتماعية، وتساويهم بالفئات البسيطة التي تلجأ لاستخدام هذه الوسائل بسبب ظروفها المادية التي لا تسمح باقتناء سيارة خاصة، وبإلقائنا نظرة على حركة سير إحدى هذه المواصلات نجد بالفعل أن هناك عزوفاً من قبل شريحة مهمة من المجتمع عن استخدامها بالرغم من جودتها ونظافتها إذا ما قارناها بقريناتها في عدد من الدول الأخرى.
     ويبدو أن التسهيلات الخادعة التي تمنحها بعض المؤسسات المالية جعلت من اقتناء السيارة الخاصة أمراً يسيراً على شريحة كبيرة من المجتمع، الذين تغريهم هذه التسهيلات والعروض البراقة، فيندفعون دون تبصر حقيقي، ودون إدراك للفخ المنصوب، والمتمثل في مزيد من الفوائد تجنيها هذه المؤسسات يجعل من الشخص يدفع ضعفي القيمة الحقيقية للسيارة أحياناً، أي أنه يستنزف من جهده وعمله مبالغ كبيرة كان بإمكانه أن يستثمرها في أشياء أهم، ومشروعات أكثر جدوى ونفعاً.
     كما أن التساهل في تطبيق قوانين المرور في بعض الأحيان له دوره في ذلك،  ففي الغرب مثلاً  قد يدفع الفرد نصف راتبه كغرامات لتجاوزات بسيطة، كالوقوف في الممنوع، أو الوقوف صفا ثانياً،أو التأخر في تجديد السيارة، كما أن القانون يطبق على الكل بشكل متساو، فعندما يتجاوز الوزير، أو أية شخصية عامة،  السرعة القانونية، فانه تسحب رخصته ويغرم، وقد يتم إيقافه عن مزاولة السياقة لمدة معينة، ونفس الكلام ينطبق على باقي المواطنين، مما تجد البعض هناك يلجئون لاستخدام وسائل النقل العمومي  خوفاً من الوقوع في خطأ مروري ما، أو خشية من تجاوزهم لقانون مروري معين، بينما الأمر لدينا مختلف،  فكثير من الحالات يمكن تجاوزها، ويمكنك بالكلمة الطيبة، أو بتدخل أحد المقربين أو المعارف أن تلغي غرامة ما قبل وصولها إلى الجهاز، وبالتالي لا توجد تلك الخشية الكبيرة، التي تجعلك تفكر ألف مرة قبل اقتنائك لسيارة خاصة.
ولم يعد أمر اقتناء السيارات الخاصة ظاهرة خاصة بالذكور فقط، بل أصبحت المرأة تنافس الرجل في ذلك، وإذا ما استثنيا بعض الحالات النسائية التي تستدعي ظروفها امتلاك سيارة خاصة، فماذا يمكننا أن نقول عن ظاهرة امتلاك الأخريات لها؟ هل من الضرورة أن تمتلك ربة البيت التي يتواجد زوجها باستمرار في نفس مقر سكن عائلته لسيارة خاصة؟ وهل من الجدوى أن تمتلكها كذلك الفتاة التي يمتلك والدها أو إخوتها المقيمون معها سياراتهم الخاصة الكفيلة  بتوفير مطالب العائلة المختلفة ؟ ذاك سبب أعيده كذلك لضعف التوعية، وتلاشي  بعض القيم في ظل ظاهرة حراك اجتماعي سلبية أثرت على ثقافة المجتمع بشكل عام.
أسباب كثيرة غير تلك التي سردتها أدت إلى انتشار هذه الظاهرة، وهي ظاهرة قد لا تكون سلبية إذا كان مردها هو الرغبة في مزيد من الإنتاج  والعمل وتحقيق مكاسب اجتماعية تعود بالنفع على المجتمع والفرد، فشوارع الصين مكدسة بملايين السيارات، ولكن تواجدها في الغالب مرتبط بحركة إنتاج وعمل دءوب، أثر على وضع الدولة هناك اقتصادياً واجتماعياً، بينما لدينا مرتبط بثقافة تغريب شاملة امتدت لتشمل قطاعات كثيرة من النواحي الاجتماعية والثقافية المختلفة، في ظل تجاهل رهيب لما قد يحدثه انتشار هذه الثقافة على كافة المناحي .
      إنني لا أنادي بأن نمتنع عن اقتناء السيارات الخاصة، أو أية مظاهر مادية أو تكنولوجية أخرى، فكثير من هذه الوسائل وجودها مهم وضروري، الأهم هو أن تكون لدينا من الثقافة والوعي كمجتمع وكأفراد ما يجعلنا قادرين على تحديد أسباب امتلاكنا لهذه الوسائل، وآلية استخدامنا لها، بحيث تتحول لوسائل معينة على الإنتاج، أكثر من كونها وسائل ترف يرتبط وجودها لدينا بتحقيق مكاسب اجتماعية وهمية بعيدة كل البعد عن الأسباب الحقيقية التي أوجدت لأجلها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.