أيام قليلة ويحل علينا ضيف كريم ننتظره كل عام بشوق عارم، ولهفة كبيرة..في هذا المقال نتوقف مع بعض المشاهد والمواقف المرتبطة بهذا الشهر، والتي استحضرتها من الذاكرة، ومن معايشتنا جميعاً لكثير من جوانبها وأحداثها.
في البداية علينا أن نتذكر رمضان أيام زمان، حيث كان جميلاً بألفته وأمسياته الروحانية،كان الناس ينتظرونه لمزيد من العبادة والتواصل الاجتماعي برغم صعوبة الظروف المعيشية،وكان من المشاهد المألوفة المرتبطة به منظر الأطفال وهم يتنقلون من بيت لآخر يحملون بعض ما جادت به بيوتهم، كما كانت الحارات العمانية تحرص على المشاركة الجماعية في وجبة الإفطار، فالرجال والصبيان يفطرون معاً في صحون المساجد، والنساء يتجمعن في مكان فسيح ، كل يأت بما استطاع من ماء وتمر وبعض الوجبات التي كانت تعدها بيوت الميسورين، في مشهد جميل يوحي بمدى التواصل والتكافل الاجتماعي، وعمق العلاقة المجتمعية التي تربطهم.
كان أغلب المصلين لا يبرحون المساجد بعد صلاة التراويح، حيث يتجمعون في حلقات لتلاوة القرآن الكريم، مع حرصهم على اصطحاب أبناءهم لتعويدهم على تعلم القرآن وتلاوته ليكون نبراساً وطريقاً لهم في المستقبل، ثم تكتمل سهراتهم الرمضانية باجتماعهم على وجبة عشاء أعدها أحد المحسنين، أو "فوالة" جاد بها بعض المصلين، يتخللها سرد لقصص من سير الأنبياء والصالحين، أو تبادل الأحاجي والألغاز، أو تداول بعض أبيات الشعر.
كانت المساجد تمتلئ في العشر الأواخر بالمعتكفين، طلباً للأجر،واقتداء بسيرة النبي الكريم، وحرصاً على اغتنام أجر ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، كما كان صوت"المسحر" شجياً وهو يحث الناس على النهوض لتناول وجبة السحور، بينما عدد من صبيان الحارة يتبعونه وهم يرددون ما يقوله من عبارات جميلة .
كما كان الشهر فرصة مناسبة لتصافي النفوس، وتصالح القلوب، لذا فكثير من المشاكل الاجتماعية تحل خلاله، وكان طلب الأجر السماوي هو المقصد الأول لدى الكثيرين، فتجد الصياد يحرص على توزيع جزء من حصيلة يومه على الجيران والأقارب أو من قصد قاربه، وكذلك صاحب المزرعة، دون أن يخايلهم شعور باستغلال الموقف،وحاجة الناس لسلعهم، في تحقيق مكاسب مادية غير مقبولة دينياً واجتماعياً، كما كانت بيوت كثير من الميسورين مورداً لكثير من المحتاجين والأغراب .
هكذا كان رمضان كما عاشه آبائنا وأجدادنا، وكما عايشه بعضنا.ولكن هل عاد رمضان كما كان سابقاً؟
لقد تباينت النظرة الآن تجاه هذا الشهر الفضيل ، فالبعض ينتظره من أجل الإكثار من العبادة، وتقوية روابطه بربه ودينه، بينما يرى فيه البعض تنوعاً اجتماعياً وثقافياً يدخل المزيد من البهجة والسرور على القلب، وينوع خياراته في قضاء وقته خلال الشهر، وبعض آخر ينتظر قدوم الشهر من أجل دوراته الرمضانية الكروية التي تكثر خلاله، فتجد الاستعداد البدني، وتمارين اللياقة، وبرامج التغذية الصحية كي يكون على أهبة الاستعداد للاشتراك في أكبر عدد من هذه الدورات، كما يرى فيها البعض فرصة لتجربة وصفات جديدة ومتنوعة لبعض الوجبات، ويرى فيه آخرون فرصة للمكوث أكبر قدر من الوقت أمام شاشة التلفزيون لكسر الوقت، ومشاهدة المسلسلات والبرامج المتنوعة التي تزخر بها القنوات الفضائية المختلفة، وتتنافس بينها لأجل كسب مزيد من المشاهدين، وبالتالي عائد أكبر من الإعلانات التجارية، حتى لو كان تمويل بعض هذه البرامج والمسلسلات هو من خزينة الدولة، وحتى لو كانت بعض هذه المواد الإعلامية لا تتناسب وحرمة ومكانة الشهر الفضيل.
من بين المشاهد المرتبطة بهذا الشهر الفضيل حالياً ، التناقض بين بعض السلوكيات قبل وخلال رمضان، ففي الأيام الأولى نلاحظ امتلاء المساجد بالمصلين، والحرص على صلاة الفجر جماعة، والإكثار من قراءة القرآن، والتواصل الاجتماعي من خلال زيارات الأقارب والأرحام، وتوزيع الصدقات، وتبادل الوجبات بين البيوت،وتوزيعها على المساجد، وكذلك زوال أثر "أدوات التجميل"من وجوه الكثير من الموظفات ، والتوقف عن بعض الممارسات الخاطئة كالتدخين مثلاً، ولكن ما إن تنقضي أيام الشهر، أو جزء منه حتى يعود كل شيء لما كان عليه، وتعود "ريمه لعادتها القديمة".ويبقى السؤال المهم :لماذا يربط البعض عمل الخير، أو التوقف عن بعض الممارسات بهذا الشهر فقط؟لم لا يحدث ذلك طوال العام؟ حتى لو أيقنا ميزة هذه الشهر على غيره من الشهور في الأجر ومضاعفة الحسنات، ولكن الإنسان محاسب كذلك على ما سيفعله في الأشهر الأخرى.
وبينما عرف المسلمون الأوائل رمضان بفتوحاته وانجازاته العظيمة كغزوة بدر، وفتح مكة، وفتح القسطنطينية، وحرب أكتوبر 1973، وغيرها من الأحداث الخالدة والمرتبطة بذاكرة الحضارة الإسلامية، فإن كثير منا حالياً ينظر للشهر الفضيل على أنه شهر اللا عمل واللا انجاز، فهو شهر السهر ليلاً، والنوم نهاراً، فالبرامج الاجتماعية والرياضية، والمسلسلات المختلفة، والسهرات الرمضانية، لا تدع للبعض الفرصة في نوم مبكر يصحو على إثره نشيطاً قادراً على إنجاز عمله على أكمل وجه، لذا يحرص البعض على أخذ إجازته خلال هذا الشهر، بينما تجد نموذج آخر من الموظفين عابس الوجه، مكفهر الملامح، يعمل بنصف عين، يأتي بعد ابتداء وقت الدوام، وينصرف قبل انتهائه، يحاول قراءة القرآن في المصحف المجاور والذي يكون وجوده من الأساسيات في مكاتب بعض الموظفين في هذا الشهر،بينما عشرة مراجعين ينتظرون انتهاء معاملاتهم، ويتعمد التأخر في المكوث في المصلى لأداء صلاة الظهر، علماً بأن وقت الدوام في هذا الشهر يكون أقل من نظيره في الأشهر الأخرى، لذا لا عجب أن تقل الإنتاجية، مع أن مكانة الشهر وأهميته تستدعي أن يكون العكس هو الصحيح.
من المشاهد المرتبطة بهذا الشهر الكريم ارتفاع أسعار كثير من السلع الأساسية قبل أيام قليلة من قدومه، ارتفاع لا تعرف له سبباً حقيقياً،فالناس هم الناس، والسكان لا يزيدوا فجأة خلال هذا الشهر، ومعظم الحاجات الاستهلاكية يطلبها الناس طوال العام، والوجبات تتقلص إلى وجبتين بدلاً من ثلاث،فلماذا الارتفاع المفاجئ في الأسعار قبل يومين أو ثلاثة من ابتداء رمضان؟ هل يكمن السبب في الثقافة الاستهلاكية السلبية لدى شريحة من المجتمع، التي تجعلهم يندفعون لتوفير أكبر قدر من هذه المستلزمات حتى لو كانت تفوق الحاجة المطلوبة؟ وهل لجشع بعض التجار والمنتجين الذين يرون في قدوم الشهر فرصة لتحقيق مكاسب مادية أكبر، وضربهم بعرض الحائط لحرمة هذا الشهر التي تتطلب تسامحهم وتساهلهم، ومراعاة آداب البيع والشراء التي حثت عليها تعاليم الدين الحنيف، دور في ذلك؟ وهل ضعف أداء بعض الجهات الرقابية المنوط بها مراقبة حركة البيع والشراء من أسباب ذلك؟
من المشاهد الطريفة المرتبطة بهذا الشهر العظيم والتي لا أجد لها تفسيراً كذلك، هو ازدحام الشوارع بالسيارات قبل وقت قليل من موعد الإفطار، والسرعة الجنونية لبعض هذه السيارات في سبيل الوصول إلى البيت قبل موعد الإفطار، والسؤال هنا: ألا يمكنني العودة قبل ساعة أو اثنتين مثلاً من موعد الإفطار؟ وهل لابد أن أقضي معظم الوقت في السوق أو مع الأصدقاء كي يمر الوقت ولا أشعر بالجوع أو العطش ؟ ثم إنني مادمت قد تحملت ذلك طوال اليوم أفلا أستطيع تحمله لعدة دقائق لو قدت سيارتي بهدوء ورجعت متأخراً بعض الشيء؟
سيأتي رمضان بعد أيام، ومصادر الأخبار العالمية تتناقل انتشار خطر المجاعة لدى الملايين من البشر في أفريقيا، فهل سنعي الحكمة التي أوجدها الله من الصوم، ونحاول تعديل بعض السلوكيات المرتبطة بنظرتنا لهذا الشهر؟ أم ستظل بيوتنا تتباهى بكمية الطعام وأنواعه وأصنافه في تحد سافر لما يعانيه إخواننا في البشرية من خطر الموت جوعاً؟
كان رمضان وسيبقى ..شهر القرآن والمغفرة،شهر الخير والتواصل والتراحم، ليس شهراً للتسوق ، ولا شهراً لتغيير الأثاث، والمباهاة الاجتماعية كما يفعل البعض، فقط علينا أن نعيد له بعضاً من قيمته ومكانته، أن نعيد نظرتنا إليه، أن نستلهم نظرة سلفنا له، ونستحضر منجزاتهم فيه، وقتها.. سيكون رمضان دواء للقلوب والأبدان..ستشفى قلوبنا من كثير من أمراضها المزمنة، وستتعافى أبداننا من جراء النظام الصحي الذي تتضمنه معطيات هذا الشهر، والذي هو بحاجة لمن يبحث عنه من خلال التتبع الصحيح لسيرة النبي (ص) وسلفه الصالح، لن ندع لسماسرة الفن والتجارة الفرصة كي يبتزوا عقولنا وجيوبنا، وسنكون أكثر حيوية وإنتاجاً وعطاء..لأننا ببساطة سنكون قد أدركنا حكمة وجود هذا الشهر، ومدى الفوائد العظيمة التي يحتويها، وكل رمضان وأنتم بخير.