عزيزي
القارئ: إذا كنت تبحث عن موضوع تاريخي أو كتاب أعياك البحث عنه ولم تجده، أو أردت
أن تستعيد ملامح جميلة لمدينتك قبل أن تغزوها غابات الاسمنت القبيحة، أو حاولت
تصوّر نمط الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة في السّلطنة قبل السبعينات، فغالباً لن
يكون أمامك سوى البحث في (قلعة التاريخ) لصاحبها ومؤسّسها الباحث عماد بن جاسم
البحراني كملاذ يمكن أن تجد في أركانها ومخابئها كثيراً ممّا تبحث.
لم يكتف
عماد مدرّس التاريخ سابقاً قبل أن ينتقل للعمل في مشروع المتحف الوطني بوزارة
التراث والثقافة، ثمّ كباحث دراسات تاريخيّة، بالأمنيات فقط، بل حوّل حلمه الذي
رافقه طوال سنوات عمره والخاص بالتعريف بالتاريخ العُماني محلياً وخارجياً إلى
واقع متاح، وذلك من خلال إنشاء مدوّنته الشّخصيّة التي بدأها بنشر مقالاته
الشّخصيّة، ثمّ ما لبثت أن توسّعت لتشمل أقسام عديدة كمكتبة قلعة التاريخ، وتاريخ
عُمان المصور، وصور جلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم، والوثائق والخرائط التاريخية،
والعملات والطّوابع والأفلام والمقاطع التاريخيّة العمانيّة النّادرة، بالإضافة
إلى عدّة روابط هامة لمؤسسات ومراكز وجهات ومجلات تاريخية، كما أصبح لها صفحات
مختلفة على مواقع التّواصل الاجتماعي العديدة من فيس بوك، وتويتر، وانستجرام،
وواتساب وغيرها.
عند ولوجك لقلعة البحراني ستصاب بالذّهول وأنت تتجوّل
بين كنوزها المختلفة، وسيراودك السؤال الآتي: كيف لشخص واحد أن يجمع كلّ هذه
الكنوز، وبإمكانات شخصيّة بحتة، فكمّيّات الصّور النّادرة، والوثائق، والخرائط،
والكتب، والعملات، والمقاطع البصريّة التي يحتويها الموقع، أو التي تعرض في صفحات
التواصل الاجتماعي المختلفة التابعة للقلعة هي من الأمور التي بحاجة لفريق متكامل،
تدعمه امكانات لوجستيّة كبيرة، فنيّة كانت أم مادّيّة، فما بالك بجهد شخص واحد!
شخصياً أدين للصديق الباحث عماد البحراني بكثير من
الأشياء الجميلة، ذلك أن انضمامي إلى مجموعته (الواتسابيّة) المتفرعّة من قلعته قد
أضاف لي الشيء الكثير، وجعلني أستعيد وأراجع كثيراً من المعلومات التاريخيّة، كما
عرفّني بعدد من الشباب العمانيّ المهتم بقضايا التّاريخ المحلّيّ في شتّى فروعه،
وأتاح لي فرصة النّقاش والحوار في جوّ علميّ بتنا نفتقده في ظلّ قلّة الاهتمام
بالقضايا العلميّة والتاريخيّة المختلفة، بعد أن حلّ الأدب وقضاياه في المرتبة
الاولى من الاهتمام المؤسسي الفكري أو التعليميّ.
في قلعة البحراني تجادلنا كثيراً حول العديد من القضايا
التي مازلنا نبحث لها عن تأكيد في مصادرنا التاريخيّة الشحيحة من قبيل إن كان مازن
بن ابن غضوبه شخصيّة حقيقيّة أم لا! وهل تتّجه قبلة مسجد العقبة الكائن في ابراء
نحو بيت المقدس أم أنّ الأمر لا يعدو خطأً في تصميم المحراب واتجاهه! وهل أطلق
الفرس بالفعل تسمية (مزون) على عمان وتعني الأرض الخصبة! وماهي القبائل التي كانت
تسكن عمان عند وصول مالك بن فهم بمن معه من الأزد! وماذا عن كرامات بعض الأئمة
والعلماء! وقضايا جدليّة أخرى كثيرة أسهم شحّ المصادر في إثارتها، وهو أمر يجعلنا
نفكّر كثيراً في إعادة كتابة التاريخ العماني، والعودة إلى كثير من المصادر
كالوثائق التي تم الكشف عنها مؤخراً، وكتب الفقه والأدب العماني التي أشارت إلى
أحداث ودلالات وقضايا تاريخيّة كثيرة بحاجة إلى من يمحّصها ويضعها في سياقها
التاريخيّ الصحيح.
وفي قلعته كذلك تساءلت مع نفسي عن مصير العشرات من
الباحثين الشّباب الذي تخصّصوا في جوانب مختلفة من التّاريخ العمانيّ، سواء من
خلال التأليف أو الدراسات العليا، والذين لا يكادوا يسمعون بندوة أو محاضرة تتعلّق
بتاريخ عمان هنا أو في الخارج دون أن يكون لهم نصيبهم من الحضور والمشاركة. ترى هل
سيتمّ الاستفادة من إمكاناتهم وجهودهم البحثيّة في الكلّيّات والجامعات والمراكز
البحثيّة المختلفة، أم سيعودون إلى وظائف مكتبيّة رتيبة أبعد ما تكون عن التخصّص
الذي أفنوا فيه شبابهم وجهدهم!!
في قلعته أيضاً ناقشنا الأسباب التي أدّت إلى جهل الكثير
من شباب الوطن بمفردات تاريخهم، والخلط الحاصل في المعلومات التّاريخيّة المتعلّقة
بالسّلطنة، وتحسّفنا على عدم وجود مركز تاريخيّ متخصّص يكون ملاذاً للدارسين
والباحثين والمهتمّين، ويقع على عاتقه حفظ التاريخ المحلّي من خلال الاشراف على
البحوث والدراسات التاريخيّة المتخصّصة، والقيام بأعمال الترجمة والتحقيق للوثائق
المختلفة، وتبنّي مشاريع دعم طباعة الكتب والدراسات المتخصّصة في جوانب التاريخ
العماني، وإقامة الندوات والمؤتمرات وورش العمل، أسوة بكثير من الدّول التي سبقتنا
في إنشاء هذه المراكز لدرجة وجود أـكثر من مركز بحث تاريخيّ في بعض الدّول بعضها
متخصّص في تاريخ مدن بعينها في تلك الدّول.
في قلعته اقترحنا بعضاً من الحلول التي يمكن أن
تسهم في التّعريف بالتّاريخ العماني، ودور ذلك في الحفاظ على الهويّة الثّقافيّة
للسلطنة، كإيجاد أدوار أكثر أهمية للمناهج التعليمية في تقديم التاريخ المحلي بشكل
يجعل الطلاب يقبلون على دراسته، ويكسبهم القدرة على تذوّقه، وحماية الموروث عبر تأسيس
متاحف متخصصة في كافة مجالات الثقافة والتراث، والحفاظ على الشواهد المتبقية وتحويلها
إلى مؤسسات ثقافية لا إزالتها تحت دعوى تحوّلها إلى ملجأ للحشرات والقوارض، ودعم الفولكلور
المحلي بكافّة أشكاله، وتعزيز الحرف العمانية بشكل عصريّ تتواكب والتغيرات الاقتصادية
الحاصلة، وإطلاق أسماء الشخصيات العمانية البارزة على بعض الشوارع والمؤسّسات، وتنظيم
المؤتمرات والمسابقات والفعاليّات التي تتناول شخصيات أو قضايا تاريخية بعينها، واستلهام
حياة بعض الشخصيات التاريخيّة في تنفيذ أعمال فنية وأدبية مختلفة كالمسلسلات والتمثيليات
والروايات والقصص القصيرة، بالإضافة إلى تعريف العالم بملامح هذا التاريخ والثقافة
من خلال تقوية التواجد الثقافي في الخارج، ووضع برامج مختلفة للتبادل الثقافي مع شعوب
العالم المختلفة.
ترى هل ستصمد قلعة البحراني طويلاً وسط تحدّيات وظيفيّة
وتكنولوجيّة ومادّيّة قد يعاني منها صاحبها! وماذا عن حقوق الملكيّة الفكريّة ونحن
نرى كلّ من هبّ ودبّ يستفيد ممّا تحتويه هذه القلعة من كنوز مهمّة دون الإشارة
أحياناً إلى مصدر ما أخذه! وهل ستجد هذه القلعة من يلتفت إليها أخيراً ويحاول أن
يتبنّى جهود صاحبها، ويجعل منها نواة قادمة لمركز تاريخيّ متخصّص يمكن أن يكون
أكثر تأثيراً في ظلّ وجود أرضيّة صلبة قامت عليها القلعة، وفي ظلّ وجود كثير من
الباحثين والمؤرّخين الشّباب المؤهّلين والذين طال انتظارهم لهذا الحلم, سؤال
إجابته مؤجلّة للمستقبل القريب.. أو البعيد!!
د. محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com