الجمعة، 30 ديسمبر 2011

نحو مجتمع أكثر تكافلاً


      جريدة الرؤية- الاثنين 26/12/2011م

كانت الساعة تشير إلى الخامسة عصراً عندما صادفت ذلك  المشهد المؤلم في حي ( الخوير ) الراقي بالعاصمة مسقط. كنت على وشك ركوب سيارتي بعدما أنهيت زيارة قمت بها إلى إحدى المؤسسات التي يقع مقرها في المنطقة عندما لمحتها. امرأة عمانية  تشير ملامح سنها إلى منتصف الأربعينات من العمر. كانت تفتش في بعض الأكياس السوداء المكدسة في  مجمع قمامة كبير يجاور بناية سكنية فخمة تحتل واجهتها لافتات لعدد من المحلات والمطاعم الراقية، بينما ابنتها ذات العشر سنوات تراقبها عن قرب.

ظللت مرتبكاً لدقائق أتأمل المشهد قبل أن أقترب منها كي أسألها عن الأسباب التي دفعتها لفعل ذلك وأنا أدعو الله في سري ألا تكون الأسباب هي ذاتها التي جالت بخاطري. ردت علي بلهجة محلية مفادها أنها تقوم بجمع بعض (المعدن) كي تبيعه على تجار الخردة ، قلت لها: ألا تخشين أن يراك أحد وأنت تقومين بفتح أكياس القمامة كيساً بعد كيس؟ أشارت بيدها إلى ابنتها وقالت: إذا لم أفعل ذلك فمن أين ستعيش هذه البنت وإخوتها الأربعة؟ تجرأت أكثر وسألتها: أين زوجك؟  أجابتني وهي تواصل ما بدأت القيام به بعبارة معناها: دعني في حالي، فلا يعرف الحال إلا صاحب الحال، ما أقوم به أفضل ألف مرة من أن أقف متسولة على قارعة طريق.

تركتها ولسان حالي يقول هل يمكن لامرأة في مثل هذا السن، وفي مجتمع محافظ أن تقوم بما قامت به دون سبب وجيه؟ ألم تفكـــر ولو لمرة قبل أن تفكر في هذا العمل؟ وكيف ستكون ردة فعل ابنتها مستقبلاً تجاه ما رأته ؟

لا أسوق هذا المشهد كي أبدي حالة من التشاؤم والهلع تجاه مجتمعنا ومدى تكافله الاجتماعي، كما أن البعض قد يقول إن  حالة كهذه، أو حتى عدة حالات أخرى مشابهة، لا تعني الحكم السلبي على ترابط المجتمع ، فمازالت هناك كثير من أشكال التكافل والتواصل، ومازالت أعمال البر والخير تعم مجتمعنا من أقصاه لأقصاه، ومازال هناك كثير من الخيـرين الذي يقدمون أشكالاً من العون والمساعدة للمحتاجين  ـ

ولكن الإشارة إلى مشهد كهذا يعني أن ندق ناقوس الخطر تجاه ما يمكن أن يتعرض له هذا المجتمع مستقبلاً، خاصة ونحن نسمع عن حالات مشابهة هنا وهناك، ونرى بأم أعيننا حالات تسول تكثر كل يوم، ويقوم بها أفراد من أبناء المجتمع ، وتطالعنا وسائل إعلامنا المختلفة بقصص وإحصائيات مؤلمة  عن حالات مجتمعية تتعلق بالتفكك الأسري، أو العقوق العائلي، أو التسول، وغيرها من المظاهر الغريبة التي لم يعتادها المجتمع العماني.
نحن مجتمع عرف بتكافله وترابطه على مدى فترات طويلة من الزمن، على الرغم من حالة العوز والضيق الاقتصادي التي تأثر بها هذا المجتمع خاصة في فترة ما قبل النهضة، والتي لم تثن أفراده على أن يهتموا ببعضهم البعض، كما أننا كجيل قد عايشنا كثيراً من مظاهر هذا التكافل،  ومازالت ذاكرتنا تختزن العديد من القصص المتعلقة بمظاهره المختلفة، حيث لمسنا حرص أهالينا على إخراج  الزكاة وتوزيعها، واهتمامهم الكبير بزكاة الفطر ، كما شاركنا في توزيع  ثلث أضحية العيد الكبير على المحتاجين من الجيران والأقارب، وعايشنا في حاراتنا الصلة الشديدة التي كانت تربط الجيران ببعضهم البعض، والتي كانت تتجلى في مناسبات الأفراح والأتراح المختلفة، بحيث تكون الحارة أسرة واحدة تتكاتف جميعاً لمواجهة هذه المناسبات، وما يتبعها من التزامات مادية ومعنوية، كما اشتركنا في توزيع ما تجود به بيوتنا على البيوت المجاورة دون تمييز بين فقير وغني،  وسمعنا عن الكثير من القصص والروايات الخاصة ببعض المقتدرين الذين  كانوا يطرقون الأبواب ليلاً  ليضعوا بعض الأموال أو المواد الغذائية والملابس أمام أبواب بيوت الفقراء والمحتاجين.

كثير من هذه المظاهر الجميلة قد بدأ في التلاشي، فلم يعد الجار هو الجار، ولم تعد (سبلات) البيوت مفتوحة طوال الوقت للقاصي والداني كما كانت، ولم يعد رمضان والعيد وغيرها من المناسبات الدينية والاجتماعية كما عهدناها في صغرنا، وأصبحنا نسمع بين الحين والآخر عن قصص مؤلمة لأسر وأفراد ضاقت بهم الحياة ، ولم يجدوا فسحة أمل بها، نتيجة ضغوط حياتية واجتماعية لم يكن لها أن تحدث لو كانت هناك مسئولية مجتمعية مشتركة تجاههم من قبل بقية أفراد مجتمعهم.

وقد يقول قائل: ولكن آبائنا وأجدادنا لم يكن لديهم ما يشغلهم من أمور حياتية كثيرة، كما أن مجتمعهم كان محدوداً، لذا فلم يجدوا صعوبة في اهتمامهم ببعضهم البعض، بعكس ما نراه اليوم من تعقد العلاقات الاجتماعية، وتسارع نمط الحياة، وتحسن المستوى المعيشي وبالتالي عدم الحاجة للآخر، وكذلك وجود مؤسسات حكومية تعنى بأمر بعض الفئات التي هي بحاجة إلى اهتمام ورعاية.

برأيي أننا سنكون مخطئين إن اعتقدنا أن المبررات السابقة هي  مبررات حقيقية تجاه ما يحدث من شقوق حاصلة  في جدران العلاقات المجتمعية، فأجدادنا لم يهتموا بمظاهر التكافل إلا عندما أحسوا أنهم كمجتمع لن يستطيعوا العيش في أمان اجتماعي دون تفعيل مظاهره، ومبرر تحسن المستوى المعيشي والاقتصادي لا يمكن أن نعممه على كافة شرائح المجتمع، وحالة التسارع الاقتصادي الذي يعيشه مجتمعنا له ضريبته التي تعاني منها بعض هذه الشرائح، بل إن التغيرات المجتمعية المختلفة التي طرأت بسبب نمط حياتنا الجديد قد أدى لوجود حاجة ملحة للتكافل الاجتماعي ربما أكثر مما كان عليه سابقاً،  كما أن وجود جهات حكومية يقع على عاتقها الاهتمام بتقديم العون تجاه بعض الفئات لا يمكن أن يلغي دورنا كمجتمع  تجاههم، فخصوصية مجتمعنا الثقافية والاجتماعية المستوحاة من تعاليم الدين الحنيف، وقيمنا العربية الأصيلة تستوجب علينا أن نكون أكثر حرصاً على الآخر دون أن ننتظر دوراً حكومياً، أو تدخلاً لجمعيات حقوق إنسان كما يحدث في مجتمعات أخرى انشغلت بمادية الحضارة، ولهثت وراء ما يدعى بالتطور والتمدن، حتى استيقظت على مشاكل اجتماعية كثيرة أحدثت شروخاً  وتصدعات مســت واقعها الاجتماعي، فبدأت الآن في البحث عن حلول، بل إن بعضها قد لجأ لدراسة الإسلام علهم يجدوا في قيمه  ما يعيد لمجتمعاتهم كيانها وترابطها بعد عقود طويلة من التفسخ الاجتماعي.

نحن بحاجة إلى أن نكون أكثر قرباً من بعضنا البعض، كما علينا كذلك أن نطوع علمنا وتقدمنا تجاه التمسك بعاداتنا وقيمنا الأصيلة، وأن تكون منطلقاً ونبراساً نهتدي بها في وضع لبنات تجعل مجتمعنا أكثر تماسكاً، كي لا نصحو في يوم لنجد مثل هذه الحالات قنابل موقوتة تهدد تماسك المجتمع، فنظرة لواقع بعض المجتمعات الغارقة في المشاكل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية تجعلنا نوقن أن بعد تلك المجتمعات عن قيمها، وتهميشها لبعض الفئات تحت مبرر المادية الحضارية قد جعل تلك الفئات المهمــشة  خطراً مجتمعياً وتحدياً يهدد المجتمع، بعد أن فقدت الإحساس بأهمية وجودها فيه، وحلت محلها نظرات الكره والحقد الاجتماعي.

إنني متفائل بكثير من الجهود المجتمعية والشبابية، وبخاصة في الدعوات التي نراها في مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، وفي الجمعيات التطوعية الاجتماعية التي تنشأ كل يوم، وكذلك في الجهود التي تبذلها بعض الجهات الحكومية، ولكن كل ذلك لوحده لن يكف ما لم يكن هاجس الإحساس بالآخر يسكن بداخل كل فرد منا، فلا يتطلب الأمر سوى مراجعة علاقتنا ببعضنا البعض، والحرص على استرجاع ما فقدناه في زحمة ما يدعى بالمدنية والحضارة.



د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com



هناك تعليقان (2):

  1. أنه لفخر لي أن أكتب لك هذا الرد المتواضع .
    والفخر الاكبر أنني تعلمت على يدك ، وأفتخر بانك أبن بلدي وديرتي ..
    نعم كل ما قد قلته هو المحزن والحال المرير الذي نراه، ولكنني كلي امل بالتغيير طالما هنالك أناس مثلك يرون ما لم يراه الاخرون ، فالكل ينظر من الزاوية الظيقة أما أنت فلا وهذا واضح في موضوعك الاكثر من معبر ورائع ويشرح الوضع .

    ردحذف
  2. اسعدني ردك ...واحب كذلك ان اشيد بفكرتك الاجتماعية الرائعة المتمثلة في مشروع ايادي الخير

    مشروع يلقي بكثير من الاحجار في المياه الراكدة في مجال العمل البلدي بالولاية.كل التوفيق لك وللفريق المعاون

    ردحذف

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.