جريدة الرؤية- الاثنين- 5/12/2011م
في جلستنا المعتادة، رأيته متجهم الوجه غاضباً، لا يكاد يطيق نفسه، ولا من حوله، بادرته بالسؤال: خيراً أبا فاطمة، ما بك؟ أجابني: أنا مقهور مما يحدث أمامي من تناقض غريب، نتغنى صباحاً بتاريخنا الضارب في القدم ، وتراثنا الثقافي والاجتماعي المتنوع، ثم نأتي مساءاً لنفعل عكس ذلك.
قلت له: هوﱢن عليك. لم أفهم شيئاً مما قلت. ما هذا الأمر الخطير الذي حدث وجعلك أنت الشخص المعروف بهدوئك منفعلاً هكذا؟ وما علاقة تراثنا بغضبك؟ رد علي: قبل قليل وأنا في طريقي إلى هنا مررت بإحدى حارات المدينة القديمة، وهناك رأيت ما ضايقني وأصابني بالكدر، عدد من العمـﱠــال يقومون بهدم أحد بيوت (السركال) القليلة المتبقية في المدينة، وأنت تعرف بالطبع أهمية تلك البيوت كآخر ما تبقى من معالم تاريخية تشهد بتاريخ المدينة.
أجبته وأنا أضحك: أهذا ما أغضبك؟ حسبت أن هناك أمراً جللاً قد حدث. وماذا في هذا؟ أمر يحدث كل يوم وفي كل حارة.أين الغريب في ذلك؟
أجابني والغضب يغطي ملامحه: يا أخي كفوا عن سلبيتكم هذه ، أنت وغيرك ترونه أمراً عادياً، ولكني لا أراه كذلك، قل لي بالله عليك ماذا تبقى لنا من تراث مادي بعد أن أقفلنا مصانع السفن، وذهبت سفننا إلى غير رجعة، وهدمنا هذه البيوت التي تعد ثروة تاريخية هائلة، بأركانها، وشبابيكها المزخرفة، وأبوابها الخشبية ،وترابها و ما يحويه، والذي تفوح منه أصالة الفترات التاريخية والعصور المختلفة ؟ إنني أتألم بشدﱠة عندما أتجول في بعض الحارات القديمة وأرى الإهمال و التشويه المتعمد التي يحيط بها، الشوارع مليئة بالعفن والرطوبة، والبيوت نصفها مهدم والآخر مرمم بشكل يشوه المنظر أكثر مما يعيد إليه جماله. يا قوم أليس فيكم رجل رشيد يعرف قيمتها التاريخية وما قد تمثله من مخزون تاريخي مهم؟
قلت له: ولكن قد يأتيك من يقول وما الفائدة من جـﱠراء الإبقاء على تلك البيوت أو محاولة ترميمها؟أوليس من الأفضل هدمها خاصة وأنها قد تشوﱢه المنظر العام، وتحد من عملية التوسع العمراني، وقد تكون بيئة مثالية للعديد من الحشرات والقوارض؟
أجابني: ومن جعلها كذلك غيرنا؟ لو كانت لدينا خارطة حضارية للأحياء القديمة لما حدث كل ذلك. للأسف انحصرت نظرتنا إلى هذه الشواهد في كونها مرتعاً للحيوانات السائبة، أو أنها تشوه منظر المدينة، لذا فعمليات الهدم تعمل في كل ساعة. لن أحدثك عن جناية شهر البلديات على كثير من هذه البيوت والحارات بدعوى تنظيم المدينة. سأعطيك مثلاً واحداً فقط من بين عشرات الأمثلة على هذه العشوائية العجيبة: هل سمعت عن مدرسة الغزالي في مدينة صور؟ كانت مركز إشعاع فكري وتعليمي في الأربعينيات من القرن الماضي، وكانت من أولى النماذج للمدرسة الحديثة التي تقدم علوماً عصرية بجهود أهليه. أين هي الآن؟ هدمت عن كاملها في إطار ما يسمى بشهر البلديات، ولم يتبق منها سوى بعض الأحجار المرمية على قارعة الطريق.هل يكفي هذا المثال؟ ترى ماذا سنقول للأجيال القادمة عندما سنحكي لهم عن تاريخ أماكننا؟
سألته: برأيك كيف لنا أن نحد من عملية هدم وإزالة تلك البيوت خاصة وأن أصحابها لهم مطلق الحرية في هدمها أو الإبقاء عليها؟
هنا أجابني قائلاً: سؤال وجيه وإليك الإجابة: أولاً من المهم وضع قوانين وتشريعات تتعلق بالحفاظ على هذه المعالم والآثار، وحمايتها من يد العبث، ، كقوانين المنفعة العامة، ويمكن لنا أن نحدد نوعية التعامل مع هذه البيوت حسب أقدميتها، أو أهميتها التاريخية، أو قيمتها الفنية، أو مدى قابليتها للترميم، فليس كل أثر يصلح لأن يكون معلماً تاريخياً يمكن ترميمه ، وهنا يمكن التفاهم مع أصحاب هذه البيوت أو الورثة لتوضيح أهمية هذه البيوت، ورغبة الدولة في الاستفادة منها، كي تكون مراكز إشعاع ثقافي يمكن أن يضيف الشيء الكثير لتاريخ البلد، مع تقديم التعويض المناسب لأصحابها، كما يمكن لأصحاب البيوت أو حتى المحلات التي لا تشكل أهمية تاريخية كبرى بحسب تصنيفنا لها أن يحتفظوا بها أو يسكنوها، بعد أن يتم ترميمها بالشكل الملائم الذي لا يشوه جمالية تلك البيوت، ولا يقلل من تناسقها، وبالتالي يحفظ تاريخ المدينة.
ويمكن أن نحولها كذلك إلى متاحف تحفظ تاريخ أي مدينة تتواجد فيها، وتكون شاهداً على عراقة تلك المدينة وأصالتها، أو استخدامها كمراكز ثقافية تحوي نشاطات مختلفة، فكون هذه الأخيرة تنظّم في مكان تاريخي ستزيد من قدرتها على جذب الجمهور، كما أن من شأنها خلق تنوّع ثقافي خلاق، ولو بحثت في شبكة المعلومات العالمية لوجدت نماذج متعددة في كثير من الدول تمت الاستفادة منها في خلق أنشطة ثقافية مختلفة،تنظَّم فيها الندوات والمؤتمرات والأمسيات الشعرية والأدبية.كما أن بالإمكان كذلك تحويها إلى مزارات سياحية متعددة الأغراض ، واستخدامها كاستراحات، أو مطاعم أو غيرها، مما ينعش اقتصاد المدينة ، ويجعلها قبلة للمرتادين من كل صوب. اذهب إلى أي مدينة حضارية وستجد أن هناك كثيرا من المقاهي والمطاعم والمكتبات بنيت منذ مئات السنين وما زالت تستخدم حتى الآن بعد إضافة الترميم المناسب لها.أنت نفسك في كثير من الجلسات كنت تحدثني عن عشرات المزارات التاريخية التي قمت بزيارتها، وعن كثير من المشاريع الحضارية التي تهدف إلى الحفاظ على الشواهد التاريخية المختلفة بالتعاون مع مؤسسات ثقافية عالمية، والتي كنت تلاحظها أثناء تجوالك في حواري القاهرة القديمة؟ هل نسيت؟
قلت له: لم أنس بالتأكيد، ولكن باعتقادي أنه لا تنقصنا الإمكانات المادية لكي نفعل كل ذلك. أليس كذلك؟
رد علي: بالتأكيد. ليست مشكلتنا في الدعم، فبشيء من التنظيم يمكن أن نوجد مصادر دعم مختلفة، كأن ننشئ هيئات مستقلة خاصة بالحفاظ على هذه الشواهد ونوجد لها الميزانية المناسبة، أو أن نشرك بعض مؤسسات القطاع الخاص، أو حتى المؤسسات العالمية التي تعنى بأمر الثقافة "كاليونسكو"، أو جمعية"أغاخان" أو غيرها. يا عزيزي مشكلتنا تكمن في الوعي بأهمية ما تعنيه هذه المعالم من قيمة تاريخية لا تقدر بثمن، باختصار،نحن مطالبون باحترام تاريخنا الحضاري، والمحافظة على إرثنا الثقافي والعمراني، كي تبقى للأجيال القادمة كشاهد على تاريخ جميل..وماض عريق.
تركت أبو فاطمة وأنا أفكر في ما قاله، وأبحث عن تبرير لغضبه، وهو الإنسان البسيط الذي لم يحو من الثقافة الشيء الكثير، ولكنه بالتأكيد يحوي حســاً ناطقاً بحب الوطن، وبالرغبة في أن يكون في أفضل حال دائماً، فليس بالشهادة أو المنصب وحدهما يخلق الوعي.
د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.