الثلاثاء، 28 فبراير 2012

شهادة عليــا.. للبيع


جريدة الرؤية - الأربعاء 29/2/2012
دخل علي غاضباً مزمجراً  لا يكاد يطيق نفسه ، ثم بادرني بدون مقدمات:أريد أن أعرض شهادتي العليا للبيع أو المبادلة بأي شيء مادي يمكن أن أستفيد منه . هل يمكن أن تساعدني كي أحقق هذا الغرض؟

استغربت للطلب، فما أعرفه أن (البعض) يلجأ لشراء الشهادة لا بيعها، فما بال صديقي يفكر في العكس ، وأنا الذي أعلم مدى التفاؤل الذي كان يحمله، والجهد الكبير الذي بذله كي يستكمل حلمه في الدراسة، وكنت قريباً من عوائق كثيرة صادفته في سبيل تحقيق ذلك الحلم، ولكن رغبته العارمة كانت حائط صد قوي لكثير من تلك المعوقات المختلفة.

سألته وأنا أدعوه للجلوس : هون عليك يا صديقي وقل لي ما الموضوع؟ فلربما استطعت مساعدتك.

أجابني بعد أن هدأ قليلاً:أنت تعلم جيداً معاناتنا نحو استكمال الدراسة، ابتداء من طرق كافة الأبواب لمحاولة الحصول على الموافقة بذلك، ثم تحمل التبعات المادية المتعددة المتمثلة في رسوم الدراسة ، وتذاكر السفر، وتكاليف المعيشة المختلفة، وغيرها،  إضافة إلى المعاناة الاجتماعية المتمثلة في البعد عن الأسرة والوطن ، وأثر ذلك على استقرارنا الأسري. برغم ذلك  فقد كانت رغباتنا، وطموحاتنا، وأحلامنا أقوى من كل ذلك.

قلت له: جميل هذا الإصرار والمثابرة، بالتأكيد نسيتم كل ذلك بعد تخرجكم وتحقيق حلمكم.

قال لي: للأسف يا صديقي. شخصياً أدركت متأخراً  أن كثيراً من تلك الأحلام والأمنيات كانت مجرد طيف حلم جميل سرعان ما تلاشت بمجرد انتهاء ذلك  الحلم، وها أنا يا صديقي بعد سنوات من التخرج لا فرق بيني وبين الكرسي الذي أجلس عليه. ربما يكون الكرسي مفيداً لمن سيأتي بعدي، بينما لا أعتقد أن هناك من يهتم بوجودي من عدمه، بل إنني أكاد أجزم أننا خلال فترة دراستنا كنا مجرد أرقام  منسية في كشوفات مؤسساتنا، وربما لم يهتم أحد بشكل جدي بماهية دراستينا، أو تخصصاتنا، أو موعد عودتنا، أو آلية الاستفادة مما درسناه.

          سألته: وهل من المفروض أن  يتم وضعكم في برج عالي، و أن يتم توزيعكم على الوظائف الإدارية العليا لمجرد حصولكم على شهادات عليا؟

رد علي بصوت مرتفع: ومن قال ذلك؟ لا نريد أكثر من أن يتم وضعنا في الوظائف التي تناسب تخصصاتنا، والتي يمكن أن نجد أنفسنا فيها، بحيث نشكل إضافة مهمة للمؤسسة التي نعمل بها، ولو لم تستطع المؤسسة تحقيق هذا المطلب لأسباب مختلفة فعلى الأقل يتم إشراكنا في اللجان والفعاليات المتعلقة بتلك الوظائف القريبة من تخصصاتنا، كي نشعر بوجودنا وإسهامنا الإيجابي، وفي نفس الوقت نكون أكثر صلة بما قمنا بدراسته.

قلت له وأنا أغمزه بابتسامه : ولكن بالتأكيد تمت تسوية أوضاعكم المادية، وحصلتم على تعديل وضع يتناسب وأهمية الشهادة التي حصلتم عليها.
رد علي وهو يتنهد: ليت  ذلك قد حدث بالفعل، كنا سنشعر أن تلك المعاناة أتت بفائدة، على الأقل  سنستفيد من هذا التعديل في سداد الديون المتراكمة بسبب رسوم الدراسة والمعيشة .للأسف يا صديقي فقد اصطدمت طموحاتنا في تعديل أوضاعنا المادية بعشرات الإعاقات المختلفة، ليس أقلها اللوائح الوظيفية البالية التي أكل منها الدهر حتى أصيب بالتخمة.

قلت له: حاول أن تعذر المسئولين قليلاً، فلربما يكون حجم مشاغلهم، وكبر حجم المؤسسة، وتشعب إداراتها وأقسامها، هو السبب في ما تشعر به، ولكني أعتقد أنهم ليسوا بغافلين عن دراساتكم وبحوثكم، وبالتأكيد هناك من يستفيد منها في أروقة هذه المؤسسات.

رد غاضباً: وما الذي يجعلك متأكداً هكذا ؟ للأسف كثير من هذه الدراسات هي حبيسة الأرفف والأدراج، وتنتظر من ينفض عنها غبار الإهمال، بالرغم من أنها تناقش قضايا مهمة، وتمس موضوعات تهم الدولة في مختلف مجالاتها، وقد توفر  جلب الخبراء الخارجيين.أنا شخصياً منذ تخرجي حتى الآن لم يسألني أحداً كان عن عنوان دراستي، فما بالك بمحتواها؟

سألته : تقوم بعض الجهات في الدولة من فترة لأخرى بتكريم عدد من المثقفين والمجيدين ، وقد يصل الأمر إلى تقديم مبالغ مجزية، فلا تقل لي أيضاً أنه يتم استثناءكم من هذا التكريم؟

أجابني  بتهكم: لسنا شعراء أو كتاب قصة قصيرة كي يتم تكريمنا، فهؤلاء هم الشريحة المثقفة في البلد في نظر بعض المسئولين، وقد تفوق قيمة إحدى قصائد النفاق  الاجتماعي،كافة المصروفات التي قمنا بدفعها طوال سنوات دراستنا، مع تقديري واحترامي لهذه الفئة فأنا لا أقصدهم جميعاً .

     قاطعته متجاهلاً  سخريته المؤلمة: ولكن لا تنكر أن هناك العشرات من حملة الشهادات العليا ممن تبوءوا مناصب مهمة في الدولة، فلم كل هذا التشاؤم والنظرة السوداوية؟

رد علي بقوله: لا أنكر ذلك بتاتاً، وهي خطوة مهمة تحسب للحكومة، ولكن معظم هؤلاء هم إما أساتذة جامعيين أو مسئولين كبار أكملوا دراساتهم بعد وصولهم إلى مراتب وظيفية عليا في مؤسساتهم، أو أصحاب وضع اجتماعي مميز، بينما أنا أتحدث عن العشرات المتناثرين في مؤسسات الدولة الحكومية المختلفة ، ولا يلقون نفس النوع من المعاملة. جرب مرة  يا صاحبي أن تراقب  اثنين من حملة الدكتوراه في نفس التخصص ومن نفس الجامعة، أحدهم أستاذ جامعي والآخر موظف حكومي، وقارن بين وضعهما المادي والاجتماعي، وانظر كذلك إلى مدى تعامل الآخرين مع كل منهما، وقتها قد تشعر بكل ما أحس به وأقوله لك الآن.عموماً سأتركك الآن وفكر جيداً فيما قلته لك، وإن وجدت من يقبل بعرضي فلا تنس إخباري.

تركني صاحبي بينما تزاحمت عشرات التساؤلات في داخلي: هل كان حديث صاحبي واقعياً أم به شيء من المبالغة؟وهل هناك ما يبرر حنقه وغضبه؟ وهل  يوجد بالفعل عشرات الكفاءات العلمية  المتناثرة في أروقة مكاتب المؤسسات الحكومية المختلفة؟وهل هناك  معايير وأسس واضحة تحدد آليات الترقيات المادية والوظيفية، أم أن هوى المسئول ومزاجيته يلعبان دوراً في ذلك؟ ولماذا لا تكون هناك مكاتب فنيه ملحقة بهذه المؤسسات مهمتها متابعة أوضاع الدارسين من أبناء المؤسسة، والتنسيق مع الإدارات التي لها علاقة بتخصصات البعض بحيث يتم الاستفادة من هذه الكوادر فور تخرجها، وإدراجها في روزنامة خطط تلك الإدارات ؟ ولماذا (نبجل) الخبير الأجنبي ، ونضن بما نملكه على ابن البلد وكأننا نؤكد مقولة (زامر الحي لا يطرب)،ولماذا ترغب كثير من الكفاءات في الهجرة أو الانتقال إلى مؤسسات أخرى داخل البلد،ولماذا لا تكون لدينا أياماً للعلم نكرم من خلالها  العلم والعلماء في مختلف المجالات، ولماذا، ولماذا،ولماذا؟
أسئلة كثيرة دارت في بالي، وستبقى، علها تجد يوماً من يجيب عليها.


د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.