جريدة الرؤية - الأربعاء 15/2/2012م
في كل مرة أتصفح فيها بعض منتديات الحوار السياسية المحلية ، أو أطالع عدداً من الصفحات الشخصية لفئة من المثقفين العمانيين في مواقع التواصل الاجتماعي كالفيسبوك والتويتر، إلا وألاحظ أن معظم الآراء الفكرية المتعلقة بأوضاع البلد تكاد تنقسم إلى فريقين متعارضين، فريق يرفع شعارات براقة كالحرية والعدالة والديمقراطية، وتغلب عليه النظرة السوداوية المتشائمة، وتكاد تشعر مع كتاباتهم أنك تعيش في دولة أخرى غير التي تعرفها، وفي ظل نظام قمعي مستبد. وفريق آخر يرى في الفريق السابق أنهم مجرد خفافيش ظلام، وناكرين لجميل الدولة التي أعطتهم كل شيء، فقابلوا معروفها بالجحود، وقد تصل الأمور لديهم إلى حد التخوين أو اتهامهم بالإلحاد أو تبني أفكار خارجية، في ظل تراجع الفكر الوسطي الهادف.
برأيي أنه من حق أي شخص أن يختار الفكر السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي الذي يراه مناسباً، ومن حقه كذلك أن يمارس الطقوس الفكرية والاجتماعية التي يعتقد بجدواها،فهذه حرية شخصية مكفولة له، ولكن هل من حقه أن يصر على تطبيق هذا الفكر الذي يؤمن به؟ وهل بالضرورة أن تكون كل فكرة أو تجربة صالحة للتطبيق في مجتمع قد تختلف تركيبته السياسية والاجتماعية والفكرية عن البلد الذي نشأت فيه تلك التجربة؟ وهل يعني عدم تطبيق هذه الأفكار أن ننظر إلى الدولة بنظرة سوداوية، وأن ننسف كل ما تحقق من منجزات يشهد عليها العالم بأسره ؟
وبرأيي كذلك أنه لا توجد حرية أو ديمقراطية مثالية، ولا يمكن أن نشير إلى بلد بعينه على أنه مثال للحرية والديمقراطية والعدالة الكاملة، ولو استعرضنا تجربة أي دولة من تلك الدول التي تدعي تطبيق الديمقراطية الحقيقية لوجدنا كثيراً من المتناقضات التي قد تتعارض والشعارات التي يتحدث عنها مسئولي تلك الدول.
ودولة مثل الهند وهي من أعرق الديمقراطيات في العالم، قد يتأخر فيها تنفيذ مشروع طريق خدمي معين في قرية نائية لمجرد أن أحد السكان المتأثرة بيوتهم بهذا المشروع لا يود التنازل عن نصف متر من أجل تنفيذ هذا المشروع، وقد يمارس حقه الديمقراطي في تعطيل تنفيذ المشروع،وبالتالي تظل القضية لسنوات في أروقة المحاكم، وفي نفس الوقت فإن دولاً كالصين وسنغافورة وهي دول حققت تقدماً ونمواً كبيراً في كثير من المجالات، قد لا تصنف كدول ذات تجارب ديمقراطية رائدة.
نعم. أنا مع حرية الإعلام، والديمقراطية، والعدالة الاجتماعية ، وغيرها من الأفكار و الشعارات الجميلة، ولكنني في الوقت ذاته مع الحرية المسئولة، والطرح الواقعي الذي يتوافق وظروف البلد، وليست الحرية المفتوحة التي قد تتحول إلى عبث، وفي نفس الوقت فأنا أشعر بأن كثيراً من هذه الأفكار متوافرة في مجتمعنا، فمجالسنا اليومية، ومواقعنا الحوارية الالكترونية، وصفحاتنا الشخصية في مواقع التواصل الاجتماعي تشهد طرح كثير من الأفكار والقضايا التي قد تؤدي إلى المجهول في دول نعتقد أنها أكثر قدماً في تجربتها الديمقراطية، وتجربتنا البرلمانية تشهد تطوراً ملحوظاً، وليس ذنب الحكومة أننا لا نحسن اختيار بعض الأعضاء ، وإعلامنا يشهد حرية رأي لا بأس بها يشيد بها كثير ممن يتعاطون مع وسائله المختلفة، ولم نسمع يوماً عن تعسف أمني، أو حالات سحل أو تعذيب أو امتهان لكرامة المواطن كتلك التي نسمع بها في كثير من الدول الأخرى، وإنسانية سلطان البلاد وحكمته وعطفه وتسامحه يتحدث عنها العالم بأسره، والخدمات المجتمعية المختلفة تكاد تصل إلى كل قرية في ظل محدودية إمكانات وموارد الدولة ، وما يقابلها من اتساع رقعة السلطنة، وتنوع تضاريسها، وتوزع سكانها بين عدد كبير من المدن والقرى، مما يتطلب إيصال كافة الخدمات لكل مواطن مهما كان عدد السكان في كل تجمع.
نعم يوجد هناك قصور في بعض الخدمات، نعم توجد أخطاء في بعض جوانب التطبيق، نعم يوجد بطء في التنمية البشرية، نعم توجد أشياء كثيرة بحاجة إلى وقفة متأنية،ولكن هذا الأمر لا يستدعي أن نشحذ طاقاتنا لتوجيه كافة الاتهامات إلى الدولة بالتقصير . لا يعني وجود قصور في مرفق معين، أو عدم اكتمال مشروع فكري معين، أن نسلط سهام النقد الجارح للدولة ورموزها، ونلغي تجربة حضارية جميلة تم بذل الكثير من الجهد في ترسيخ أركانها.
كما أن على أفراد الفريق الثاني أن يعوا أن كل من انتقد وضعاً سياسياً أو ثقافياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً ما، أو نادى بإصلاح سياسة حكومية معينة، فليس بالضرورة أن يكون خفاش ظلام، أو ناكراً للمعروف، كما أن الارتياح المادي أو الوظيفي أو المجتمعي لدى بعض أفراد هذا الفريق لا يعني بالضرورة أن الأمور كلها تمام، فبرغم كل ما تم إنجازه إلا أن هناك كثيراً من القضايا المجتمعية التي تستدعي توقفنا عندها، وهناك من الممارسات الخاطئة لدى بعض المسئولين ما يتطلب تصدينا لها، ولا يعني حجم المنجزات أن نظل طوال الوقت نتغنى بها ونمجدها دون الإشارة إلى أية هفوات أو أخطاء قد ترتكب، فإن نقاط الماء قد تثقب الصخر إذا تكاثفت، فلا نريد للأخطاء الصغيرة أن تتجمع كي تشكل تحدياً قد نعجز عن التصدي له إلا بتضحيات.
كما أن المطالبة بتغيير بعض الممارسات أو السياسات أمر يفرضه حب الوطن، فهذا الوطن هو ملك الجميع، وهذا الأمر يحتم علينا أن نخلق مساحة لمراجعة بعض السياسات، وتقييم بعض الممارسات، كي يبقى الوطن أكثر قوة وتماسكاً، فلم تعد الظروف هي ذاتها، ولم تعد التحديات هي نفسها.
أتفهم غيرة كثير من الأقلام الشريفة على وطنهم، وحرصهم على أن يكون أكثر جمالاً ونقاء، ولا أدعي أنني أكثر منهم وطنية، ولكني مع سيادة الطرح الوسطي ، والنقد الهادف البناء، فبالطرح الهادئ الواعي، والاختيار المناسب للأطروحات والقضايا يمكن أن نسهم في حل كثير من قضايانا، وأن نحقق ما نصبو إليه من نواقص تتعلق بالتجربة السياسية، والعدالة الاجتماعية والحرية الإعلامية، والتوزيع العادل للخدمات، فالصوت العالي ليس هو الوسيلة المناسبة دائماً لتحقيق كل ذلك.
نحن في وطن يحتاج تكاتفنا وتعاوننا في الدفع بعربته بسلاسة كي لا تخرج عن القضبان، وطن لا يحتمل أن نغامر به، أو أن نتعامل معه باعتباره شيئاً وهمياً نجرب عليه أفكارنا، وطن لا يحتمل مزيداً من التشتت بقدر ما يحتاج إلى التعدد والتنوع وإقامة جسور التواصل بين كافة الاتجاهات مهما تباعدت المسافات.
د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.