جريدة الرؤية - الأربعاء 25/1/2012م
أكتب مقالي هذا قبل ساعات على بدء أعمال أولى جلسات أول برلمان بعد الثورة المصرية، والذي شهد مشاركة واسعة من قبل أطياف الشعب المصري المختلفة، وأسفرت نتائج انتخاباته عن فوز كاسح للقوى الإسلامية المتمثلة في حزب الحرية والعدالة الذراع السياسي لجماعة الإخوان المسلمين، وحزب النور السلفي،إضافة إلى الفائزين من أحزاب "الوسط"، و"الفضيلة"، و"البناء والتنمية"، والتي تمكنت من الاستحواذ على ثلاثة أرباع البرلمان، وهي تيارات كانت إما محظورة أو مسجونة خلال الفترة السابقة ، فيما يشكل الليبراليون والقوميون والمستقلون والفلول الربع الباقي.
مما سيميز هذا البرلمان أنه"سيكون أول برلمان في تاريخ مصر يضم ممثلي 19 حزبًا مصريًا، وهو أول مجلس يضم كل القوى السياسية بكل ألوان الطيف، من أقصى اليسار (الشيوعي) إلى أقصى اليمين (السلفي)، وهو أول مجلس في تاريخ مصر يكون رئيسه من الإخوان المسلمين بعد 62 عامًا من الحظر والحل والتجريم والمطاردة والاعتقال" كما يرى ذلك الخبير السياسي الدكتور أحمد مطر رئيس المركز العربي للبحوث السياسية والاقتصادية.
ولكن هناك تحديات كبيرة سيواجهها هذا البرلمان خلال المرحلة القادمة، لعل من أبرزها مدى الصلاحيات التي سيتمتع بها خلال المرحلة القادمة، فبرغم أن المادة (33) في الإعلان الدستوري تعطي البرلمان حقه في التشريع وإقرار السياسة العامة للدولة، وكذلك الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية، إلا أن الرؤية غير واضحة حول آلية تنفيذ تلك الصلاحيات وحدودها، مما جعل الباب مفتوحاً للكثير من التأويلات والرؤى المختلفة التي نسمعها كل يوم من قبل فقهاء دستوريين وشيوخ قضاء وغيرهم،كما أن هناك تصريحات معاكسة تخرج من حين لآخر تشكك في تلك الصلاحيات، كتصريحات اللواء ممدوح شاهين عضو المجلس العسكري الذي أكد"إن البرلمان القادم لن يكون له حق اختيار أو إقالة الحكومة أو سحب الثقة منها"، وهذا يتناقض مع تصريحات سابقة له بأن جميع الصلاحيات التشريعية ستنتقل إلى البرلمان تلقائيا فور انتخابه، كذلك فهل يستمر المجلس في عمله بعد الانتهاء من صياغة الدستور، أم سيكون هناك انتخابات جديدة، أو توضع ملاحق تضمن استمرار المجلس؟
كما أن هناك تحديات اقتصادية كبيرة ستواجه البرلمان ، خاصة وأن الكثير من المصريين ينظرون للمجلس الجديد على أنه يمكن أن يلعب دور المخلص من كثير من المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي عانوا منها طوال الحقبة السياسية السابقة كالفقر والبطالة والعشوائيات والفساد والبيروقراطية وانهيار الطبقة الوسطى،وغيرها، والتي كانت أحد الأسباب المهمة للقيام بالثورة ، في ظل الحديث عن أعضاء يراهم كثير من أفراد هذا الشعب أنهم أكثر عفة ونزاهة، وأن اتجاهاتهم الإسلامية قد تصب في جانب تحقيق العدل الاجتماعي، والمساواة، والإحساس بمعاناة المواطنين، ومحاربة الفساد والاحتكار وسطوة فئة بعينها على مناحي الاقتصاد، ومع توالي التصريحات من قبل مسئولي حزب الحرية والعدالة بأن المشروع الاقتصادي القادم سيكون أكثر ( نجاعة )من التجربة التركية والماليزية. وهذه الرؤية تختلف مع ما يشير إليه الدكتور عمار على حسن الخبير في شؤون الحركات الإسلامية، الذي يرى أن البرلمان الحالي " لا يمثل الشريحة الفقيرة من المصريين إلا نادراً، لأن أغلب الذين فازوا ينتمون إلى تيار الفكر الاقتصادي الرأسمالي، وبذلك لا يوجد فرق بين (الحرية والعدالة) و(المصريين الأحرار)، فكلاهما ينتصر للخصخصة ويأبى فكرة إعادة توزيع الثروة، والعدالة الاجتماعية لا تأخذ حيزاً كبيراً من اهتماماتهما".
كما أن الأحزاب الإسلامية المسيطرة على مقاعد البرلمان، والتي عانت كثيراً من ممارسات البطش والتنكيل تجاهها طوال سنوات طويلة ماضية، و نجحت بامتياز في مجال الخدمات الدعوية والاجتماعية، وتمكنت في كثير من الأحيان من لعب دور ( حكومة الظل ) من خلال هذه الخدمات، مما أكسبها تعاطف الشارع، وبالتالي حصدها لأصوات الناخبين، سيكون أمامها تحدياً مهماً في إثبات جدارتها السياسية، واستحقاقها للنسبة التي حصلت عليها، وهذا سيأتي بوجود وضوح في الرؤية السياسية القادمة لها، مع الابتعاد عن المناوشات التي لا تتطلبها المرحلة الحالية كقضية تطبيق الشريعة، أو فرض الحجاب، أو أسلمة السياحة، وغيرها من القضايا الجانبية التي ستستنزف كثيراً من الجهد والوقت، وستحيلهم إلى معارك هامشية، سيكون الجانب الليبرالي واليساري أكثر المستفيدين منها، في ظل اتهامات من قبل هذا الطرف بأن الإسلاميين يلعبون بورقة الدين ، وسيعيدون تجربة الترابي في السودان، أو الخميني في إيران، أو طالبان في أفغانستان. ولعل تجربة أحزاب ( العدالة والتنمية) في تركيا والمغرب، و(النهضة) في تونس، وهي أحزاب ذات مرجعية إسلامية قريبة ستكون ماثلة أمام مسئولي تلك الأحزاب الإسلامية.
ونفس الأمر ينطبق على الأحزاب الليبرالية واليسارية التي كان ينظر إليها على أنها أحزاب ورقية من صنيعة النظام السابق الذي نجح في اختراقها بإجادة، مما جعلهم يتفرغون للتنظير على وسائل الإعلام المختلفة، وكيل التهم لبعضهم البعض، وانتقاد الأحزاب ذات المرجعية الدينية على طول الخط، مع ابتعاد واضح عن الاحتكاك بالشعب وتبني مطالبه الحقيقية، الأمر الذي أفقدهم تعاطف الشارع، وبالتالي تحقيق نتائج هزيلة في انتخابات البرلمان، لذا فإن تحديهم الحقيقي هو إثبات نفسهم كمعارضة قوية وجادة، وهذا يستلزم منهم التوقف عن التصريحات الكلامية، ومحاولة إيجاد تكتل قوي منظم يلعب دوراً مؤثراً في رسم سياسات البرلمان.
ومن التحديات كذلك شكل التحالفات القادمة في البرلمان والتي يلخصها سامح راشد الخبير والمحلل السياسي في مركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية في " أنها ستخضع لمعايير السياسة وليس الفكر أو العقيدة ، لذا فهو لا يتوقع قيام تحالفات دائمة ثابتة، ولكنها ستكون صفقات مرحلية حسب كل قضية أو استحقاق".
ويبقى تحدي صياغة الدستور هو أحد التحديات المهمة التي ستواجه البرلمان كما يراها الباحث والمحلل السياسي محمد أمين، فعلى أساس هذا الدستور سيتم انتخاب رئيس الجمهورية، وسيحدد على أساسه كذلك آلية ممارسة الحياة الديمقراطية والعمل السياسي في الفترة القادمة، لذا "فإن حسن اختيار لجنة صياغة الدستور سيكون مؤشراً حقيقياً على نجاح أو فشل التجربة البرلمانية الأولى في مصر بعد الثورة، في ظل الحديث عن رقابة شعبية قاسية، ومليونيات مستعدة للخروج في أي وقت".
في ظل مشاركة شعبية واسعة أملاً بتحقيق مطالبهم التي عجزت المجالس السابقة عن تحقيقها، وفي ظل علاقة توجس أقرب إلى النفور بين عدد كبير من شباب الثورة والأحزاب الإسلامية المسيطرة على البرلمان، والذي يرى الشباب أنها خذلتهم خلال الوقفات الاحتجاجية التي تلت الثورة، وفي ظل تمثيل متواضع للشباب والأقباط والمرأة، وفي ظل وجود مجلس عسكري حاكم يقبض على مجريات الأمور، وفي ظل عدم وجود نظام سياسي واضح (رئاسي / برلماني / رئاسي برلماني)، وفي ظل أوضاع اقتصادية متأزمة، وتحديات اجتماعية وفكرية كبيرة، ترى كيف سيكون حال المجلس، وهل سيحقق شيئاً من مطالب الشعب؟ ربما ستتضح الرؤية في الفترة القادمة.فلننتظر ما تسفر عنه الأحداث.
د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com
تحليل جميل جعلني أفهم أشياء غائبة عني في الحالة المصرية ..
ردحذف