الجمعة، 13 يناير 2012

واقع النكتة السياسية في المجتمع المصري


جريدة الرؤية - الأربعاء 11/1/2012م
على مدى عصور التاريخ المتلاحقة، والنكتة  هي سلاح المصري للتغلب على همومه، وهي حاضرة في أصعب ظروفه المعيشية. يعبر من خلالها عن معاناته ونقده للممارسات الخاطئة ، ويسخر من المستبدين به، ويهينهم ويقلل من هيبتهم. وهي دفاع ضد الحزن العميق الكامن في الشخصية المصرية, لذا ليس غريباً أن تجد المصريين يضحكون كثيراً برغم كثير مما يعانوه.

النكتة بالنسبة للمصري كما يراها الصحفي الكبير عادل حمودة تعني المقاومة الساخرة، الواعية، الحية، المتفلسفة، وربما السلبية أيضاً..مقاومة تعطي الشعب (الأمان)، وتعبر عن إرادته التي لا تفنى، ولا تقر الخوف، وتسعى إلى أن تتجاوزه..هي (انتقام)مقدس ..يدافع به الشعب عن نفسه ضد (الطغيان).

وعلى مر العصور لم يسلم حكام المصريين من خفة دم محكوميهم الممزوجة بالألم أحياناً، وبالقهر والكبت أحياناً أخرى، فبينما تورد بعض الكتابات أنّ أقدم نكتة سياسية مكتوبة في العالم فرعونية، وتعود إلى 1600عام قبل الميلاد، فقد توالت النكت بعدها مستقصدة كل حاكم حاول أن يتلاعب بمشاعر المصريين وعواطفهم، ويضايقهم في معيشتهم،فقد استخفوا بالخليفة الفاطمي ( الحاكم بأمر الله ) وقوانينه الغريبة، كما لم يسلم منهم الوزير الأيوبي (قراقوش) الذي وصفته النكتة المصرية بالغباء، بالرغم من محاولة بعض كتب التاريخ إنصافه.

وقد انتشرت النكتة السياسية في مصر  على نطاق واسع بعد ثورة 1952، وما صاحبها من تغييرات سياسية واجتماعية واقتصادية متنوعة. وبينما ركزت في عهد الرئيس جمال عبد الناصر على تناول جوانب الحريات السياسية ونقص بعض المواد التموينية، فإنها اتسعت في عهد الرئيس أنور السادات لتشمل قضية الاستعداد للحرب مع إسرائيل، أو ما عرف بعام (الضباب)، ثم  ركزت على الانفتاح الاقتصادي، والوعود التي ارتبطت به من انتشار الرخاء الذي سيعم كل المصريين ، وهو الانفتاح الذي وصفه الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين (بالسداح مداح)، مروراً بكامب ديفيد، والصلح مع إسرائيل.

وبينما كان عبد الناصر يتألم عند سماع بعض النكات السياسية، ويأمر جهاز المخابرات بجمع هذه النكت ومحاولة تحليلها، بل أنه قد وصل به الحد إلى عزل بعض الوزراء بسبب نكتة معينة تناولت قضية اجتماعية تمس بأداء وزارته، وحدثت بينه وبين بعض الشخصيات الأدبية المعروفة ما يصل إلى القطيعة بسبب نكات قيل إنهم كانوا وراء تأليفها، كما حدث مع الأديب عبد الحميد السحار، أو قصته مع الظريف كامل الشناوي ونكتة (السكر).فإن السادات كان معروفاً عنه أنه لا يبالي بتلك النكات التي قيلت عنه بالرغم من قساوتها وكان يسميها (نكات الصباح)، وكذلك كان حال مبارك الذي خرج في أكثر من لقاء تلفزيوني ليقول إنه لا يقرأ سوى الصحف الحكومية.

وفي عهد الأخير والذي امتد لحوالي (30) عاماً، اتسع نطاق النكتة السياسية لتشمل كافة الجوانب الحياتية، مع تركيزها على جوانب الفساد المالي والإداري، وترهل أجهزة الدولة، وانتشار الرشوة والمحسوبية، وصعود نجم بعض الشخصيات الانتهازية التي ارتبط ظهورها بقربها من مركز السلطة، وملف التوريث، وهو الأمر الذي فسره البعض على أنه مجرّد تنفيس ، فيما رأى فيه آخرون نذيراً بثورة قريبة، ولعل من نماذج تلك النكات (جمال عبد الناصر حبيب الملايين.. وجمال مبارك حبيب المليارات)، (الرئيس هيثم جمال مبارك يهنئ الأمة المصرية بمناسبة حلول عام 2075 ويؤكد أن السلطة في مصر لم ولن تورث") وهي إشارة إلى موضوع التوريث.

و قد ارتبطت ثورة (25) يناير وما تلاها من أحداث ارتباطاً وثيقاً بالنكتة السياسية، فقد بدأت إرهاصات هذه الثورة من خلال انتشار نكات من نوعية (زين العابدين لمبارك: انا في انتظارك مليت)،  (بن علي يتصل بالإذاعة السعودية ويهدي مبارك أغنية مستنياك)، هذا عدا عن الرسومات التي امتلأت بها مواقع التواصل الاجتماعي، والتي تم استيحائها من سقوط نظام بن علي، وكأن المصريون يمنون النفس بحدوث معجزة، ليتواصل بعدها سيل النكات التي واكبت انطلاق الثورة،  والتي اطلع عليها العالم  بأسره ، على شاكلة (ارحل بقا.. ايدي وجعتني )، ( ارحل.. صوتي راح )، ( ارحل.. عايز أروح أحلق )، (ارحل.. مراتي وحشتني)،  وهي نكات أتت كرد طبيعي على طول الفترة التي قضاها أصحابها في الشارع ، مما حرمهم من التمتع بالأمور الطبيعية في الحياة كالاستحمام والنوم والراحة. 

وبرغم البرد القارس، وموقعة (الجمل)، والاتهامات الأخلاقية من قبل أدوات النظام الإعلامية،  إلا أن ذلك لم يؤثر على خفة دم الثائر المصري الذي ينتسب إلى شعب معروف عنه انه (ابن نكتة)، فقد توالى رفع اللافتات التي تحمل شعارات سياسية فكاهية من نوع (ارحل قبل ما يجولك الصعايدة)، و(خليك قاعد.. إحنا حنجيلك )، و( الصين حلوة يا ريّس)، وفي الأخيرة إشارة إلى اختيار الصين كمنفى بعيد للرئيس وعائلته.

ولأن (الفيس بوك) لعب دوراً كبيراً في انطلاق الثورة، ابتداء بصفحة (كلنا خالد سعيد) وصاحبها وائل غنيم الذي يعده البعض عراب الثورة، والتي كانت أول من دعا إلى التظاهر يوم (25) يناير، فقد ظهرت نكات كثيرة تتناول دور هذا الموقع الاجتماعي، لعل أبرزها تلك التي تجمع مبارك بالرئيسين الراحلين عبد الناصر والسادات في الحياة الآخرة، فعندما سأله الرئيسان السابقان عن سبب انتهاء حكمه بالقول "منصة ولاّ سُمّ؟"، قال مبارك "لأَ.. فايسبوك."

وبالرغم من انتصار الثورة إلا أن الشعب المصري لم يتخل عن النكتة، وظهرت نكات كثيرة كتلك اللافتة التي كتب عليها(ارجع يا ريّس... كنا بنهزّر معاك) مع توقيع (الكاميرا الخفية )، في حين وجه آخرون دعوة للتظاهر يوم الجمعة المقبل تحت شعار «ارجع بقى وحشتنا.

كما كانت النكتة حاضرة مع بدء محاكمة بعض الشخصيات التي ارتبطت بنظام مبارك، وأسهمت في إفساد الحياة السياسية فيه، فأصبحنا نسمع عن (بورتو طرة)، (حكومة بورتو طرة)، ( بورتو طرة من أجلك أنت)، وهي شعارات تدل على عدم ثقة المصريين في المحاكمات التي تجرى لهؤلاء.

ومع اقتراب الأحزاب الإسلامية من السيطرة على مقاعد البرلمان المقبل، خرجت نكات على شاكلة
(من النهارده هناكل لانشون حلواني إخوان وهنقاطع الباقي)، (بيقولك الطريق الدائري هيغيروا اسمه وهيبقي الطريق المستقيم)، (خد لك صورة مع الأهرامات وأبوالهول ممكن منشوفهاش بعد كده).

ولم يسلم الفن من خفة الدم المصرية، فأصبحنا نسمع عن أسماء أفلام مثل ( مبارك في الزنزانة )، (الواد سليمان بتاع الرئيس )،( أرجوك أعطني هذا السواك)، (التجربة التركية )، والاسمين الأخيرين أتيا كردة فعل على توقع  فوز الإسلاميين في الانتخابات.

وكان للرياضة نصيبها كذلك، حيث  كتبت تعليقات كثيرة لعل من بينها( قررت جماعة الإخوان تأسيس فريق كرة قدم وتغيير الكابتن إلى الشيخ، وسينادي اللاعبون على بعضهم: شوت يا أخي،ويصبح منصب المدير الفني، أمير الفريق ). وكتب آخر ( أول قرارات تمرر في البرلمان الجديد تحريم كرة القدم نظرا لاحتمال حدوث هجمة (مرتدة) أثناء المباراة).

(حقاً.. لا أحد يفهم الشعب المصري أكثر من الشعب المصري ) مقولها أطلقها نابليون قبل أكثر من مائتي عام.

د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.