الأحد، 1 يناير 2012

كــارثة بيئية


جريدة الرؤية - 2/1/2012م
عندما أتى ابن خالي ليدعوني لزيارة مردم النفايات بولاية جعلان بني بو علي، كنت متردداً في مرافقته،حيث  اعتقدت أن ما سأراه هو شيء بسيط لا يتجاوز بعض الأكياس البلاستيكية المتناثرة هنا وهناك، ومخلفات أخرى لا تشكل شيئاً فارقاً يستدعي التوقف عنده، ولكن مع إصراره وإلحاحه الشديد علي بأني سوف أرى شيئاً مختلفاً، وافقت على الذهاب معه، وليتني ما فعلت، فما رأيته كان يفوق الوصف، ويعد بحق أمراً مفزعاً وكارثة بيئية  بكل المقاييس، واستهتاراً لا يقبل السكوت عليه، وتقصيراًً يستوجب المحاسبة والمساءلة.

       فعلى امتداد مساحة كبيرة تجاوزت عدة كيلو مترات  كان المكان عبارة عن مقلب قمامة كبير يمكن أن تجد فيه كل ما يضر بالبيئة، من إطارات محروقة وأخرى مكدسة، وحيوانات نافقة، وبقايا مواد بناء، ومخلفات مصانع تعليب الأسماك، ومواد بلاستيكية وزجاجية غير قابلة للتحلل، وآلاف من أكياس القمامة السوداء الملقاة على امتداد تلك المساحة الكبيرة، والتي تناثرت محتوياتها في كل أرجاء المكان، وغيرها من المخلفات الأخرى.

      وبالرغم من وجود مكان لاستيعاب مخلفات الصرف الصحي، إلا أن معظم سيارات نقل مياه الصرف التابعة لبعض الأفراد أو الشركات العاملة بالولاية، كانت تقوم بتصريف هذه المخلفات في أي مكان يناسبها، مشكـــلة مستنقعات كبيرة من المياه الراكدة  تكاد لا تستطيع الاقتراب منها، لخبث رائحتها، ولانتشار أعداد مهولة من الحشرات حولها، بالرغم من أن كثير من هذه المستنقعات والبحيرات  قد لا تبعد سوى أمتار قليلة عن المكان المخصص لتفريغ حمولة تلك السيارات، الأمر الذي يعزوه ابن خالي إلى انعدام الرقابة، وعدم رغبة هؤلاء في دفع الرسوم البسيطة المقررة لاستخدام المصرف القريب.

    وخلال جولتنا التي استغرقت نصف ساعة من الوقت، والتي  استعنت خلالها بعمامة رأسي، وبكمية كبيرة من  المناديل الورقية، كي أستطيع أن أحمي نفسي  من التعرض للإغماء من أثر الروائح الكريهة التي تنبعث من هنا وهناك، كانت العديد من سيارات النقل الخاصة تمر بجوارنا، حيث يلقي صاحبها علينا السلام، ثم يتوقف في مكان قريب ليلقي بحمولته بكل اطمئنان وثقة، وأذكر أن أحدهم، وكانت سيارته محملة بمخلفات كبيرة من بقايا الأسماك، قد دعانا- بعد أن ألقى التحية علينا -  أن نساعده في تفريغ حمولته ، وذلك كي لا يتأخر عن موعد صلاة الجمعة التي اقترب وقت إقامتها ()، كما مازلت  أتذكر كذلك سيارة البلدية المميزة بلونها البرتقالي وهي تتهادى من بعيد، ليتكرر المشهد السابق مرة أخرى، تاركاً في نفسي غصة وحرقة على بقعة من أرض الوطن يصر أصحابها على تلويثها مع سبق الإصرار والتعمد.

وبالرغم من أن المسمى هو (مردم) للنفايات، إلا أن الزائر للمكان يمكنه أن يستدل عليه من خلال رؤيته لشعلة ضخمة من النار، كالتي نراها في مصانع (البتروكيماويات) الكبيرة، مع فارق التشبيه والأهمية، مخلفة سحابة كثيفة من الدخان الأسود تنتشر على امتداد المكان، بكل ما تحمله من مخاطر تحتاج إلى صفحات عدة للحديث عن أضرارها الخطيرة على البيئة والناس والكائنات الحية الأخرى، الأمر الذي يجعلني أتساءل: هل هو مردم أم محرقة؟

لم أستطع إكمال جولتي في كل المنطقة، فما رأيته كان يفوق أسوأ خيالاتي، وعندما طلبت من ابن خالي أن نعود أدراجنا مكتفياً بما رأيته، كان رده الصادم لي: أنت لم تر شيئاً بعد، فما زالت هناك مناظر أكثر بشاعة، كما أن ما يحدث هنا يتكرر في أماكن أخرى بالولاية، لعل من بينها الصناعية الجديدة التي لم تمض سوى سنوات قليلة على افتتاحها.

من الأمور المؤلمة كذلك  أن هذا المردم لا يبعد سوى بضع مئات من الأمتار عن أقرب مخطط سكني، وأقل من كيلو متر واحد عن الشارع الرئيسي الذي يمر بالمنطقة، الأمر الذي يجعلني أتساءل مرة أخرى بدهشة ممزوجة بالألم:أليست هناك أية أهمية أو قيمة لهذا المواطن  القاطن في المنطقة المحيطة؟

وعندما ناقشت ما رأيته مع عدد من شباب الولاية ، كانت الردود باعثة على الإحباط وعن فقدان الأمل في أن يطرأ جديد بعد أن عرض كثير منهم هذا الموضوع مراراً وتكراراً على الجهات المسئولة دون جدوى، وما إن علم بعضهم برغبتي في الكتابة حول هذا الموضوع، إلا وقاموا بنصحي  بعدم إضاعة الوقت في ذلك، فكم من المقالات كتبت سابقاً، وكم من الموضوعات طرحت في وسائل الإعلام المختلفة، ولكن دون فائدة، وكأن المسئولين لدينا لا يقرءون، أو أنهم يقرءون ولكن لا يبالون.

إنني أتوجه بندائي إلى معالي الوزير المسئول عن الشئون البلدية والذي أتى من مجلس يفترض أنه يعبر عن نبض الشارع المحلي، وأتى كذلك بعد حراك سياسي واجتماعي كان الهدف منه تصحيح بعض الممارسات الوظيفية الخاطئة، وأنا كلي ثقة برغبته الجادة في تغيير منظومة العمل البلدي نحو الأفضل، حتى لو تطلب ذلك بعض الوقت.

إنني أدعوك يا معالي الوزير بأن تقوم بنفسك بزيارة المكان، وألا تعتمد على التقارير الفنية التي سيرفعها لك البعض حوله، وأنا متأكد أنك ستفاجأ بكثير من الأمور التي ستجعل مكتبك مشغولاً بكثير من الملفات المهمة خلال الفترة التي ستلي الزيارة، وواثق من أنك ستصدر الكثير من القرارات التصحيحية المتعلقة بالعمل البلدي، فما هذا المكان سوى أنموذجاً لحالات مشابهة تراكمت نتيجة اللامبالاة ، وضعف المحاسبية، وقلة الوعي بماهية العمل البلدي المأمول.

يا معالي الوزير، المواطنون لا يريدون حدائق أو متنزهات، أو مهرجانات ثقافية وفكرية، أو مكتبات عامة، أو تخطيطاً جمالياً لأحيائهم السكنية،  أو ترميماً واستفادة مما تبقى من شواهد تاريخية عريقة،فهذه الأفكار هي فوق  مستوى تفكير (بعض) المسئولين عن العمل البلدي بالولايات، وهم قد فقدوا الثقة والأمل في ذلك، ولكنهم على الأقل يريدون لبيئتهم أن تبقى نظيفة، وألا تشوه بفعل ممارسات وظيفية خاطئة ظلت متراكمة لسنوات طويلة، دون أن يأتي من يحاول تصحيح المسار، فقد علمنا قائد مسيرة نهضة هذا الوطن أن الإنسان العماني هو أهم ما في هذا الوطن، وهو الثروة الحقيقية له، والمعني بكل البرامج التنموية على امتداد سنوات النهضة المباركة، ومن الخطأ أن نشوه مسيرة هذه النهضة المباركة ببعض التصرفات الغير مسئولة من قبل البعض نتيجة لغياب المحاسبية والمساءلة الوظيفية الحقيقية. 

ختاماً.. أتمنى لمقالي هذا أن يصل للجهات التي تعنيها القضية المطروحة، فقد سال كثير من مداد حبرنا في عرض قضايا مجتمعية مختلفة، دون أن نشعر ولو لمرة أن هناك من يقرأ، أو على الأقل يبالي، ونحن لا نكتب من أجل الكتابة، ولكن لأن القلم أمانة، و لكي يبقى هذا الوطن أكثر جمالاً..وإشراقاً..وازدهاراً.
     







د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.