جريدة الرؤية - الثلاثاء 31/1/2012م
عذراً صديقي عبد الله خميس.أعلم أنك تنتظر مني مقالاً يتناول قضية فكرية أو اجتماعية أو اقتصادية محلية، أو تحليلاً لوضع سياسي راهن، ولكني سأخذلك هذه المرة،ولن أحقق لك ما تريد، برغم أني كنت قد شرعت بالفعل في الكتابة حول إحدى تلك القضايا، فالخبر الذي سمعته بالأمس أصابني بحالة من الانفصام الفكري ،وحرمني من الحصول على نوم هنيء، وجعل الكوابيس تعوي في داخلي طوال ساعات الليل الذي حسبته من فرط سواده أنه لن ينتهي.
الخبر يقول : قام عدد من (شبيحة) النظام بإحراق منزل الطبيب السوري (معد طايع ) المعتقل منذ شهور، واستشهد أطفاله الأربعة عز الدين (10) سنوات، وتقي (8) سنوات، وعيسى (4) سنوات، وحمزة البالغ من العمر ثمانية أشهر.
تسألني من هو معد طايع هذا؟ لا أعرفه يا صديقي، ولم أسمع عنه من قبل، ولا يهمني انتماؤه الفكري أو الديني أو السياسي، كل ما أعلمه أنه إنسان، من حقه أن يعبر عما يراه ، ومن حق الآخرين أن يوفروا له ما يمنحه حرية التعبير دون أن يروا فيها انتقاصاً لحقوقهم، أو تقليلاً من مكانتهم.
تر ى أين هو الآن؟ في أي جحر تحت الأرض قد أخفوه؟ هل انتهوا من قلع كامل أظافره ؟ وهل تبقت شيئاً من أسنانه؟وهل أطفئوا أعقاب السجائر في عينيه؟ ولماذا تم اعتقاله وهو الذي لم يكن يوماً ما من المتاجرين في المخدرات، أو المتلاعبين في أسعار البورصة، أو الناهبين لأراضي الدولة. كل جريرته فقط أنه كان يجاهد كي يبحث لأطفاله عن وطن حر يعيشون فيه بحرية وكرامه. هل هذا يستوجب كل ما حدث له؟
هل تعتقد يا عزيزي أنه تلقى خبر استشهاد أبناءه أم لا؟ وماذا سيكون رد فعلك لو كنت مكانه وعلمت بما حدث؟ هل ستصرخ في وجه جلاديك متهماً إياهم بالقسوة والوحشية؟ أم ستحتسبهم عند الله وستعتبر ما حدث ضريبة دفعها قبلك كثير من الباحثين عن الحرية والكرامة والإنسانية؟
بل ماذا ستفعل لو حاصرتك ذكرياتك معهم. لو تذكرت ابتسامة (حمزة )البريئة وهو يلهو بجوارك أو يوقظك من نومك في براءة كي تلعب معه؟ وكيف ستقاوم صدى عبارة (عيسى) وهي ترن في أذنيك " بابا حبيبي"، وكيف ستتلاشى من أمامك دهشة (تقي) وأنت تشرح له معنى كلمة وطن، وكيف ستغيب أحلام (عز الدين) عن خاطرك وهو الذي كان يتمنى أن يصبح طبيباً مثل والده يخفف آلام المرضى، ويعالج أجسادهم المنهكة.
عزيزي عبد الله..ألم ترق قلوب أولئك المتوحشين وهم يسمعون صرخات الأطفال الأربعة وهي تتلاشى وسط النيران؟أم أنهم فعلوها خلسة ثم هربوا؟وهل استمتعوا بطعم الشاي أو (الزهورات) وهم يراجعون تفاصيل ما قاموا به من عمل بطولي يصب في مصلحة الوطن والحفاظ عليه من الخونة والإرهابيين؟ وهل ناموا ملء أجفانهم في تلك الليلة؟ ترى هل هم الضحية أم الجلاد؟
كعادتهم بعد كل جريمة، سيبحثون عن مبرر لما حدث، وقد يقولون إن سبب الحريق هو ماس كهربائي حدث نتيجة خلل فني داخل جهاز التدفئة، ولكن لا تصدقهم يا صديقي، فقد مللنا مثل هذه المبررات التي تساق في مواقف كهذه.
أجبني يا عبد الله : لماذا تصل القسوة بالبعض إلى حد (إزهاق النفس التي حرم الله إلا بالحق)؟ أكل هذا من أجل كرسي دوار قد يذهب لغيرك الآن أو لاحقاً؟ملعون هذا الكرسي الذي يجعل البعض مستعداً لإزهاق أرواح ينبغي أن يكون مسئولاً عن الحفاظ عليها، وزائف هو الفكر المأجور الذي سيبرر له كل ما يفعله
لماذا يا صديقي يفعلون ذلك؟ لماذا يعذب الإنسان أخاه الإنسان؟ هل يفعل ذلك عن غل أ عدوانية أو رغبة في الإيذاء؟ أم أنه يفعل ذلك لأنه يراه أمراً طبيعياً فطر عليه ؟هل هؤلاء الناس بالفعل بشر عاديون مثلنا لكنهم بفعل الممارسة وإطاعة الأوامر تم نزع الضمير منهم شيئاً فشيئاً حتى أصبحوا وحوشاً ضارية؟ وهل تجدي مناشدة هؤلاء الوحوش أم أنها تسعدهم أكثر باعتبارهم مرضى نفسيين؟
هل قرأت يا صديقي وأنت المهتم بقضايا المسرح عن مسرحية بعنوان "دماء على ملابس السهرة" للكاتب المكسيكي (انطونيو باييخو)، والتي تدور حول العذاب النفسي الذي يقاسيه أحد الجلادين المتقاعدين، وكيف استحالت حياته جحيماً بفعل استيقاظ كل الصور البشعة داخل نفسه واقتحامها صحوه ومنامه..صور الدماء والعظام المهشمة والجلود المسلوخة وارتجاف الضحايا وصرخاتهم.
ترى هل ستتشوه نفوسهم يوماً ما؟ وهل سينجون مما فعلوه؟وهل ستلتقط نفوسهم ما اقترفوه وتسجله عليهم وستطالبهم بتسديد الحساب مهما طال الزمن، كما يعتقد الأديب المبدع (محمد المخزنجي ) في مقالته "أمة تمشي على أربع"؟
وهل التقطت أذنك أبياتاً قالها المبدع صلاح جاهين يوماً ما:
"كل يوم أسمع فلان عذبوه..
أسرح في لبنان والجزاير وأتوه..
ماعجبش م اللي يطيق بجسمه العذاب..
وأعجب من اللي يطيق يعذب أخوه..
عجبي"
لماذا أصبحت أخبارنا لا تحمل سوى رائحة الدم؟ولماذا أصبح صوت البندقية أعلى دوياً من زقزقة العصافير ، ولماذا نحـﱠـينا مصطلحات كالحب والود والسلام والصفاء والتسامح والتعايش السلمي جانباً؟و غدا التلوث، والمجاعة، والتسلح النووي، والفقر، وغلاء المعيشة هي العناوين العريضة لعناويننا اليومية التي نصبح ونمسي عليها.لماذا كل ذلك؟ألم يأمرنا الله بأن نعمر الأرض؟ فلماذا نصر على تحويلها إلى ركام ؟
أنا متعب يا صديقي مما يحدث،وأفكاري تعبت معي كذلك..هل قالها قبلي نزار ؟ كان يتحدث عن قصائده ولكن أليست القصيدة هي في الأساس فكرة؟
عذراً صديقي.. عزائي أنك قد تجد لهلوستي ما يبررها، فأنا في حالة انفصام عن الواقع لا تسمح لي بمجرد التفكير في الكتابة، حتى أجد خبراً مفرحاً يعيد لي شيئاً من توازني، فهل أجد لديك طاقة فرح تبدد ما لدي من حزن؟
أرجوك يا عبد الله ، لا تقل لي إن خبراً كهذا نسمعه كل يوم،واعتادت عليه عيوننا وآذاننا، فلماذا ترهق نفسك في التفكير فيه. ولا تنصحني بإغلاق التلفاز، والكف عن قراءة الصحف، والاستمتاع بفعاليات المهرجان المتنوعة، أو الذهاب إلى أقرب صالة عرض سينمائية لمشاهدة فيلم (أكشن) وصل تواً، أو التفرغ للعب (الطاولة) أو (الدومينو) في أقرب مقهى، فأنا لست في النهاية سوى كتلة مشاعر بشرية، ينبغي أن تتأثر بما يحدث حولها، تفرح لفرح الآخرين وتحزن لحزنهم.
سؤال أخير يا صديقي:هل تعتقد أساساً أن (معن طايع) ما زال حياً يرزق؟ شخصياً أشك في ذلك.
د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com