الثلاثاء، 29 نوفمبر 2011

في ذكراه


جريدة الرؤية - الثلاثاء - 29/11/2011م
الخامسة صباحاً بتوقيت القاهرة من يوم الخميس الموافق التاسع من نوفمبر 2006، صباح قاهري بارد حيث قررت أن أخلد للنوم بعد يوم مرهق قضيته في مدينة الإسماعيلية لحضور مناقشة أخي.لم أكد أغمض عيني حتى أتى صوت هاتفي المحمول الذي نسيت إقفاله كعادتي كل يوم قبل النوم.إنه (ناصر البلال ).نعم يا أبا عبد الله، خيراً إن شاء الله. رد علي:لاشيء،أريد فقط  أن أطمئن عليك ؟أجبته وأنا أتثاءب: ولكنها المرة العاشرة التي تطمئن علي فيها منذ تركت الإسماعيلية مساء أمس،أهكذا تفعل مع من تحب؟يا حظ أصدقاءك بك.
انتهت المكالمة وعدت لنومي، ومرة أخرى أنسى إقفال هاتفي، ومرة ثانية يرن، ولكن الرنة هذه المرة  مختلفة، رسالة نصية من صديق قديم،تحمل في طياتها هذه العبارة " ناصر بن علي البلال في ذمة الله إثر حادث سير قبل قليل ". لم أعر اهتماماً للرسالة،حسبتها هلوسة بسبب الإرهاق الشديد الذي أعانيه، ومن كثر ما تردد اسم ناصر البلال في ذهني منذ صباح الأمس، ولأنني كنت قد هاتفته قبل قليل.عدت لاستكمال نومي، ولكن الرسائل النصية توالت علي كزخات المطر، حاملة نفس الخبر المؤلم .إذاً فهذا الصباح القاهري البارد لن يمر على خير، أو هو كما وصفه الصديق الشاعر محمد سالم السناني  (.. ذلك الصباح رغم بهائه ، كان التوقيت الفادح لخبرٍ أكبر من الكارثة، و أقل من القيامة. خبرٌ ظلَّ مؤجلاً في فم الغيب، و ظلَّتِ الأيامُ تهرب منه و ترفض أن تكون التاريخ المشئوم الذي يحمله).هي الحقيقة إذاً، فقد رحل الجميل ناصر بن علي البلال.
خمس سنوات منذ رحيله وأنا أسأل نفسي كلما مرت ذكراه بخاطري: هل فعلاً رحل ناصر البلال؟ ألن أجده في غرفته المتواضعة وسط مريديه يلقـــنهم دروساً في الحياة وكيفية التعاطي مع أفراحها ومنغصاتها؟  ألن أسمع صدى ضحكاته مجلجلة على ضفاف البطح؟ ألن أستمتع بالسماع لمعزوفات شعره في أمسية نظمت لشعراء مبتدئين، وأبى إلا أن يشارك، دعماً ومساندة منه لهم، ولكي يقول لهم أن الشاعر مهما كبر اسمه، وزادت شهرته، ليس له سوى التواضع. ألن أستنجد به كلما زارني ضيف (مهم) يريد أن يعرف الوجه الحضاري الحقيقي للمدينة؟
خمس سنوات مضت، وقلمي لا يطاوعني في الكتابة عنه، ماذا سأكتب عنه؟ كثيرة هي مفردات الإبداع في شخصية ناصر البلال، وقوي هو الوهج الذي كان يشع من أركان شخصيته المتنوعة المواهب والإمكانات.هذا الوهج الذي كان يشع في أي مكان حط فيه رحاله: ضحكات مستمعيه التي تفصح عن سرور القلب، حواراته الرائعة، إنسانيته المفرطة إلى حد التخلي عن كل ما يملكه لمن يحتاج إليه أكثر.
كنا  - نحن مريديه - نجلس حوله دائماً في وضع أشبه بالانكفاء حول نار تدفئنا، ووجوهنا إلى الأرض للاستماع إلى ذكرياته الجميلة، وأشعاره المعجونة بحب الأرض التي نشأ فيها وارتبط بها، وعاش عمره يدافع عن تاريخها.وكان الانبهار والذهول هو السمة التي كانت تنطبع على محيانا في كل جلسة تجمعنا به. كنا نشعر أننا أمام جامعة شاملة، وهو الرجل الذي لم يحصل على البكالوريوس.
كنت - أنا دارس التاريخ - أتوارى خجلاً أمام سعة ثقافته التاريخية، وغزارة معلوماته، وقوة حجته، وكان دائما ما يردد علي عبارته:"لقد سرقتك التربية منا"، فكنت أرد عليه: "أنت السبب. فأمامك أشعر أنني بحاجة إلى مئات السنوات الضوئية كي أصل إلى ما وصلت أنت إليه، فأصابني الإحباط، وتركت التاريخ إلى غير رجعة".
في القاهرة - والتي كان دائم التردد عليها– كانت لنا معه قصص ومواقف كلها تدل على إنسانية غير مألوفة، فهو الأب الناصح، و الأستاذ المرشد، و الصديق وقت الضيق. كنا نتبعه كالأطفال وهو يطوف بنا شوارع القاهرة وحواريها، التي كان يحفظها عن ظهر قلب، وكأنه في (مخا) أو (الرشـــة)، شارحاً تاريخها، ومعدداً مفرداتها،وكنا عندما نفتقده، نسارع في البحث عنه بين البسطاء في مقاهي محمد علي، وباب الخلق،و قسيون، والذين كان يقول عنهم إنهم أهلي وناسي هنا، برغم معرفته للعشرات من المسئولين والمشاهير من رجال السياسة والأدب والتاريخ، والذين كانوا يخطبون وده لمعرفتهم بقيمة هذا الرجل، والإمكانات الفكرية، والصفات الإنسانية النبيلة التي يمتلكها .
من مواقفه الإنسانية المتعددة أنه وجد مرة  شاباًً عربياً يعاني من أزمة مالية طاحنة، ولا يجد مأوى له ، فقرر أن يستضيفه في غرفته المتواضعة بأحد فنادق الحسين البسيطة، وإذا بهذا الشاب يرد الجميل بأن يقوم بسرقة محفظة أستاذنا وهاتفه المحمول، وجهاز الحاسب الآلي الخاص به، ويغادر الفندق إلى غير رجعه. عندما عاتبته  على إنسانيته الزائدة عن الحد، رد علي وهو يبتسم: (هذه أخلاقي، وتلك أخلاقه. الحمد لله أنني وجدت من هو أسوأ مني في هذه الحياة).هكذا كان يتعاطى ناصر البلال   بكل بساطة مع ما يعتريه من هموم وأزمات.
وفي الوقت الذي ارتقى فيه بعض المتسلقين سدة المشهد الثقافي، ونعموا من خيره، كان ناصر البلال شامخاً، يأنف أن يمد يده كي يستجدي مشاركة أو تكريماً، أو دعماً لمشروع ثقافي معين يقوم به، حتى لو كان هذا المشروع يثري المشهد الثقافي، ويضيف الكثير للمكتبة العمانية ، ومن عاصر الفترة التي قام فيها بتأليف كتابه (قبائل الجنبة وميناؤهم التاريخي صور) يعلم جيداً الجهد الكبير الذي بذله في سبيل إخراج هذا السفر المهم للنور، وحجم التضحيات،برغم إدراكه  أن الإقدام على ذلك العمل ليس بتلك السهولة، نظراً لندرة المادة الأثرية والتاريخية، أو لقلة الأبحاث التي تعرضت لهذا الموضوع.
واليوم وبعد مرور (5) سنوات على رحيله، ماذا تبقى من ذكراه؟و ماذا فعلنا من أجله باستثناء بعض الجهود (الخجولة)؟منذ متى لم نتذكره في محفل ثقافي أو إنساني معين؟
ليس قليلاً في حق شخصية ثقافية شاملة  كناصر البلال أن يتم تذكره ولو لمرة واحدة سنوياً في الملاحق الأدبية، أو في المهرجانات المختلفة التي تعنى بالأدب محلياً، أو أن  يوضع اسمه على إحدى مدارس أو  شوارع مدينته التي أحبها كما لم تحب أم ولداً لها،والتي (رسمها بذائقته الشعرية، وكما رآها تسبح ذات ليلة قمرية في الشاطئ،حورية تتهادى بسفنها الشراعية ، وبإطلالتها الوادِعَة على البحر، وبتراثها الذي ولع به ) على حد وصف الأديب محمد الحضرمي، فما قدمته هذه الشخصية الفذة للبلد ليس بالشيء القليل. يكفي فقط عشرات الأدباء الذين تتلمذوا على يديه، واغترفوا من رحيق عطاءه، وتكفي كذلك عشرات المقاطع الشعرية الوطنية التي مازال الوطن بأجمعه يتغنى بها في أعياده ومناسباته الوطنية، تكفى أشياء أخرى كثيرة لا تجد مكاناً لحصرها هنا.
من أجمل ما قيل فيه، قول رفيق دربه الدكتور سالم بن سعيد العريمي (كانت الإنسانية تتجلى بأسمى معانيها، فكان يأسر أي فرد بحديثه العذب، وقدرته للولوج في عالم الأدب والإبداع ، فقد كانت قناعاته راسخة قوية، وحججه قاطعة، وكان صادقاً مع نفسه لأبعد حد يتخيله إنسان، فعشق مدينته حتى بات يجسدها، فكان قلبها النابض، ولسانها الصادق).
ترى هل كان ناصر البلال يقصد نفسه في هذين البيتين في قصيدته (مع الأعشى في سوق صحار):
هامت بتطوافك الأشعار واعتنقت **    هذا النفار وغنت شدوك المثلۥ
هل كان تطوافك المضني لمسغبة **           فهاجها الشدو بل غنى بها الثملۥ 
كثير من الذكريات مع ناصر البلال لم أبح بها بعد، ولكني لا أجد ما أختم به هذا المقال أفضل من الرثاء الذي نعى به الشاعر والصحفي الكبير كامل الشناوي صديقه الشاعر البائس   عبد الحميد الديب :"اليوم مات شاعر تعرى، واكتست الأضرحة، جاع وشبعت الكلاب".
رحمك الله يا أبا عبد الله، وتحية من قلوب لن تنساك. 
د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.