السبت، 19 نوفمبر 2011

الاهتمام السامي بالتعليم..الدروس والعبر والمؤشرات


جريدة الرؤية - السبت 19/11/2011م
(أيها المواطنون.. لقد كان التعليم أهم ما يشغل بالي وأنا أراقب تدهور الأمور من داخل بيتي الصغير في صلالة، فلما أذن الله بالخلاص من سياسة الباب المغلق كان لنا جهاد، وكان لنا في ميدان التعليم حملة بدأت للوهلة الأولى وكأنها تهافت الظمآن على الماء..إنها فعلاً كانت كذلك، ونحن بدورنا أفسحنا المجال لوزارة المعارف وزودناها في إمكانياتها لتحطيم قيود الجهل. وتعلمون مدى التقدم الذي حققته تلك الوزارة.كانت المدارس تفتح دون أي حساب للمتطلبات.فالمهم هو التعليم حتى تحت ظلال الشجر.ولم يغب عن بالنا تعليم الفتاة وهي نصف المجتمع، فكان أن خرجت الفتاة العمانية المتعطشة إلى العلم تحمل حقيبتها وتيمم شطر المدرسة.مدارس في كل جزء من أجزاء السلطنة للبنين والبنات.فالعلم ضرورة لازمة ، ولابد أن يتعلم الجميع ليسعد بهم.الوطن.ولكن هل كان بوسعنا أن نفعل المستحيل؟)

من يقرأ الخطاب السامي السابق يعتقد أنه خطاب حديث يتحدث فيه السلطان قابوس  بن سعيد (حفظه الله) عن جزء من تجربة السلطنة في مجال التعليم، ويسترجع فيه بعضاً من تلك الجهود التي بذلت في ذلك المجال ، ولكن الحقيقة أن هذا الخطاب يعود إلى العام 1972،أي بعد سنتين فقط من عمر النهضة المباركة. ومن يتأمل في فحوى هذا الخطاب يجد كثيراً من الدروس والعبر، وعديداً من المؤشرات .

كان جلالته(أبقاه الله) مصراً في جعل التعليم أولوية في سياساته، وفي نفس الوقت كان واقعياً في طرحه، فهو كان  يعلم  جيداً ظروف تلك الفترة، والتحديات الجغرافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي يواجهها المجتمع العماني في تلك الفترة، لذا فقد أتى إصراره على الاهتمام بالتعليم من منطلق (..فالمهم هو التعليم ولو تحت ظل الشجر)، وتطورت ظلال الشجر بمرور الوقت إلى أن أصبحت مؤسسات تعليمية تنافس المدارس العالمية المختلفة  في الإمكانات التعليمية المتكاملة.

كما أن اهتمام جلالته بتعليم الفتاة في مجتمع تسوده  الأمية والتخلف في ذلك الوقت، والذي يرى في تعليم المرأة عيباً وخروجاً عن الأعراف والتقاليد، لهو أمر يدل على مدى تفتح الذهن ، وسعة الإدراك لدى هذا القائد الفذ، والذي اتضحت آثاره بمرور الوقت عندما أخذت المرأة العمانية تشارك شقيقها الرجل في كافة مناحي الحياة.
لم ينشغل جلالته(وقتها) بالظروف السياسية  السائدة في تلك الفترة ، ولم يتحجج بشح الموارد، بل جعل ميزانية التعليم مفتوحة، فكانت النتيجة اتساع نطاق العملية التعليمية في كل مناطق السلطنة في ظرف سنتين فقط، برغم كل المعوقات الجغرافية، وضعف وسائل التنقل والاتصال، لدرجة جعلت أحد المسئولين عن التعليم في تلك الفترة يتنقل بواسطة(البدن)، وهو وسيلة نقل بحرية قديمة، لكي يوزع حصة المدارس من الأدوات التعليمية المختلفة، وجعلت آخرين يستخدمون (الدواب)، مقدمين نماذج جميلة للتضحية في سبيل نشر التعليم لكل بقعة من بقاع هذا الوطن، مستلهمين حماسهم من قائدهم الفذ، وحرصه الدائم على الاهتمام بهذه العملية.

لم يكن هذا النطق السامي هو الوحيد في مجال الاهتمام بالعلم، بل تلته منطوقات سامية كثر، كلها تؤكد على حقيقة واحدة، ألا وهي الاهتمام اللا متناهي لجلالته بقطاع التعليم، نورد منها(..حيث أن بلادنا قد حرمت لفترة طويلة جدا من التعليم الذي هو أساس الكفاءة الإدارية والفنية ومن هنا تنشا الحقيقة بأن تعليم شعبنا وتدريبه يجب أن يبدأ بأسرع وقت ممكن )، (..إننا نهدف إلى نشر التعليم في أنحاء السلطنة، لكي ينال الكل نصيبه من التعليم وفق قدراته)، ..(إن نشر التعليم في جميع أنحاء السلطنة كان منذ البداية هدفا أساسيا نسعى إلى تحقيقه حتى ينال كل نصيبه فيه)

 كما أن جلالته كان يراهن دائماً  على دور المواطن العماني في القيام بالجهود التي يتطلبها بناء الوطن، نلمح ذلك في منطوقات سامية عديدة لعل منها (..إن بناء الإنسان الواعي القادر على تسخير مواهبه ومهاراته وطاقاته البدنية والذهنية والنفسية، هو السبيل الحقيقي إلى نجاح كل تنمية، سواء كانت اقتصادية أم اجتماعية)،  و(..إن الإنسان ـ كما نوهنا ـ دائما هو صانع التنمية وهو أداتها، مثلما هو في ذات الوقت هدفها وكل جهد يبذل في مده بالعلم النافع والمهارة الفائقة والخبرة المتنوعة هو في حقيقة الأمر إسهام قوي في تطوير المجتمع وبناء الدولة في كل مــراحل الإنسان العماني)

لم يكن جلالته ببعيد عن التطور الهائل الذي يشهده العلم كل يوم، وكذلك تسارع عمليات التنمية، لذا نلمح في خطابته وتوجيهاته ما يشير إلى مواكبة هذا التطور، منها على سبيل المثال(..وقد أصدرنا تعليماتنا للجهات الحكومية المعنية لتطوير سياسات التعليم العام والتعليم التقني والمهني بما يتناسب مع التنمية التي تشهدها البلاد).

كذلك  لا يفتأ جلالته (أعزه الله) أن يذكر شباب الوطن بأن يستفيدوا من معطيات النهضة التعليمية في تكوين الشخصية الإيجابية، والمساهمة في بناء الوطن، ولعلنا نلمح ذلك في كثير من خطاباته الموجهة لهم، ولعل من بينها(..فالتعليم يجب ألا يبقى وسيلة تثقيف الفرد فقط بل يجب أن يعنى أيضا بتكوين شخصيته حتى تلعب عمان دورا مهما في الشؤون العالمية ذلك إن التأثير المتزايد لحضارة ومدنية القرن العشرين على جوانب الحياة في بلدنا يجب أن يبدو جليا وواضحا لكل واحد منا(..إن تحصيل العلم ليس ترفا وإنما هو التزام وإسهام.. التزام بكل القيم الخيرة النيرة وإسهام جاد لا يعرف الكلل في بناء الأمة، ودعم إنجازاتها وتحقيق طموحاتها القريبة منها والبعيدة.. فهل أنتم قادرون على هذا الالتزام وهل أنتم مستعدون لهذا الإسهام.)

اتضح اهتمام جلالته بالعلم والتعليم  كذلك من خلال مواد النظام الأساسي للدولة، والذي تضمنت المادة الثالثة عشر منه  النصوص الآتية(التعليم ركن أساسي لتقدم المجتمع، ترعاه الدولة وتسعى لنشره وتعميمه)، وكذلك (توفر الدولة التعليم العام وتعمل على مكافحة الأمية وتشجع على إنشاء المدارس والمعاهد الخاصة بإشراف من الدولة ووفقاً لأحكام القانون).

ختم جلالته خطابه الأول بعبارة (فالعلم ضرورة لازمة ، ولابد أن يتعلم الجميع ليسعد بهم الوطن.ولكن هل كان بوسعنا أن نفعل المستحيل؟)

نعم يا سيدي ..لقد فعلت المستحيل، وقدمت للعالم نموذجاً مشرقاً للقائد الذي يضع وطنه وشعبه في مقدمة أولوياته..لن أتحدث سيدي عن منجزاتكم في مجال التعليم، فهي كثيرة بحيث لا يمكن لمقال أو حتى لسفر كامل أن يحصيها... هي لا تتضح فقط في الإحصائيات والمؤشرات المختلفة. بل تتضح في عيون أبناء وطنكم، وترتسم على محياهم..الشجرة أصبحت جامعة، والطفل كبر وأصبح معلماً ومهندساً وطبيباً وأستاذاً جامعياً.. والبلد بفضل كل ذلك أصبحت يشار إليها بالبنان في كل المحافل.

شكراً سيدي..لم تجعلني أغامر بركوب سفينة خشبية تقودني إلى المجهول كي أنال فرصة التعليم المسائي في إحدى الدول، بعد أن أعمل صباحاً في مهنة لا تليق بإنسانيتي وكرامتي، ولم يقطع أخي الفيافي والجبال متحملاً كل المصاعب، كي ينال نفس الفرصة، ولن أغامر بإرسال ابني مع جار قريب، أو قريب بعيد يعمل في دولة مجاورة كي أنقذه من مغبة الجهل، ولن يتغرب ابن أخي لسنوات في قرية بعيدة في أطراف صعيد مصر  تدعى (ساحل سليم) كي يجد ما يتعلمه،و لن تستقبل مدارس كراتشي ومومباي والكويت والشارقة وغيرها طلبة عمانيين.  كل هذا كان يحدث في السابق فقط.


د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.