جريدة الرؤية - الاثنين - 21/11/2011م
"الناس مرضى في عمان، لأنه لا يوجد إلا طبيب واحد لكل مائة ألف مواطن..الناس جياع فقراء في عمان،لأنهم يجهلون شق الأرض، وإخراج الغذاء والماء..الناس جهلاء في عمان ، لأنه لم تفتح مدرسة ليتعلمون فيها"
كانت تلك هي العناوين الرئيسية التي أبرزتها مجلة العربي الكويتية في تغطيتها الصحفية حول الأوضاع في عمان مع مطلع النهضة المباركة، تحت عنوان"عمان..مرة أخرى".وهي شهادة لم تكن الوحيدة التي يمكن إبرازها للحديث عن الأوضاع المختلفة التي عاشها المجتمع العماني قبل بزوغ فجر النهضة المباركة عام 1970، بل كانت هناك العديد من الشهادات المتنوعة لشخصيات عمانية بارزة قامت (جريدة الرؤية) برصدها في كتاب خاص بذلك، وهناك غيرها آلاف الشهادات التي يمكن لمن عاش عصر ما قبل النهضة أن يدلي بها، وكلها تصب حول نقطة واحدة، ألا وهي تردي الأوضاع المعيشية المجتمعية المختلفة.
في شهادته على النهضة ، عادت بالشيخ أحمد العيسائي رئيس مجلس الشورى السابق الذكريات إلى مرابع الطفولة، (..وقد تراءى بين ناظريه مشهد الأطفال المحمولين على الأعناق للدفن في (مقبرة الأطفال) في قريته (الغضيفي) بوادي عاهن بولاية صحار، فلا يمر يوم إلا وقد بني بيت جديد في تلكم المقبرة ). وهو مشهد لم يكن استثنائياً فرضته ظروف صحية معينة وقتها، بل كان دائم التكرار في كل مدينة وقرية من أنحاء الوطن، تؤكدها بيوت العزل الصحي التي كان الأهالي يقيمونها لعزل المرضى قبل عصر النهضة، والمقابر الفردية أم الجماعية التي كانت مخصصة لدفن الأموات من جراء بعض الأمراض المعدية التي تعد اليوم من الأمراض السهلة، والتي يكفي تناول مصل بسيط للوقاية منها.
وإذا أتينا إلى مجال الثقافة، فإن السيد برغش بن سعيد يرى أنها(..لم ترَ بصيصاً من نور ما قبل السبعينيات إلا في كتب وصحف قليلة كانت تأتينا من مصر ولبنان، وهذه محدودة فقط للمشتركين من أبناء مسقط ومطرح)، أما الأستاذ عبد الله العليـﱠــان فيؤكد أن قراءة الصحف (..كان الحصول عليها في تلك الفترة العصيبة ضرب من المحال، أو هي أشبه بأحلام اليقظة)، وهي شهادات كافية للحكم على مدى توافر أدوات الثقافة الحديثة وقتها.
وعن صعوبة المعيشة، وقلــﱠــة الخيارات يشهد الأستاذ توفيق عزيز أحد الرعيل الأول من المعلمين في السلطنة أن عمان (..لم يكن فيها إلا القليل القليل مما ينعم به الناس في البلاد الأخرى، فلا شوارع ولا مبانٍ حديثة ولا إذاعة ولا تلفزيون ولا وسائل ترفيه، وكانت الحياة بالليل أشبه ما تكون بما يسمى حظر التجول )،بينما يلخصها سعادة الشيخ عبد الخالق الرواس في الجملة الآتية (.. إذا ضمنت غداءك فأنت لا تضمن العشاء )، وهي جملة تحمل في طياتها كثير من الشواهد والمعاني.
وتنقلك شهادة الشيخ مبارك بن جمعه بهوان إلى أن البحر كان قدر من يسكن على شواطئه، أطفالاً كانوا أم كبارا، فبعد الفراغ من تعلــﱡــم القرآن الكريم وبعض مبادئ اللغة والحساب، فلا مجال أمامك سوى البحر (..مع أننا كنا أطفالاً لا تتجاوز أعمار أغلبنا التسع سنوات، إلا أننا كنا ندرك أنّ كل رحلة سفر محفوفة بالمخاطر كغيرها من الرحلات السابقة، وقد يقدر للمسافرين عبرها مواجهة الموت ومصارعته مثلما حدث مع الكثيرين منهم.. هذه المخاطر هي التي كانت تجعل من ساعات وأيام الشهور التي تعقب السفر وحتى وصول المسافرين إلى شاطئ صور خليطاً من مشاعر الشوق واللهفة والخوف من غدر البحر وجبروته، مروراً بمشاعر السعادة والفرح التي تزين الشاطئ عند عودة المسافرين )
ولأن عمان كانت منعزلة عن العالم الخارجي ، فقد صــﱠـــور هذا الأمر لمخيلة السيد جيفر بن سالم آل سعيد، وهو الفتى اليافع وقتها ( ..أن الحياة الدنيا الوارد ذكرها في القرآن الكريم هي مسقط. أجل، أقولها صدقاً، أن الغالبية العظمى من أبناء جيلي يظنون أن مسقط هي العالم كله..)
وعن حركة التبادل التجاري وقتها يعود السيد برغش بن سعيد ليؤكد أن الدولة (..كانت حينئذ تفرض "عشور" ضرائب، أي أن الفرد إذا أراد أن بيع غلته الزراعية في مسقط أو مطرح فيما يسمى (العرصة)، وهو قادم مثلاً من الداخلية أو الشرقية فإن رسوماً ضريبية يلزم بدفعها، لذلك كان المواطن العماني محاصراً حتى في قوت يومه)، وهذا الأمر بالطبع أجبر الكثير من العمانيين إلى السفر لطلب الرزق في بلاد الله الواسعة تاركين الأهل الذين كانوا يترقبون رسائل تطمئنهم أو تحتوي على نقود تسد رمقهم.
وإذا أتينا إلى مجال المواصلات فإننا نجد في شهادة محمد العفيفي ما يدل على سوء وضع هذا المجال ( قرر والدي أن ينقلنا إلى البحرين، وكان ذلك عام 1957 وأذكر أننا قطعنا المسافة من نزوى إلى البريمي في اثني عشر أو أربعة عشر يوماً، بواسطة الجمال)، وهو الأمر الذي تؤكده كذلك شهادة معالي الدكتور أحمد السعيدي وزير الصحة (.. ارتحلت من قريتي "القلعة" في الخابورة، إلى مدينة العين في الإمارات العربية المتحدة، وكانت الرحلة تتراوح بين المشي على الأقدام وركوب الحمير والجمال والسير ليل نهار لمدة ثلاثة أيام)، وطبعاً هذه المسافات تقطع الآن في ساعات قليلة بأحدث وسائل النقل المختلفة.
الشهادات السابقة ليست سوى جزء يسير من آلاف الشهادات الشاهدة على ذلك العصر، نوردها هنا ليس من باب النفاق أو التطبيل أو التزلف، ولكن كي نذكر أنفسنا دائماً بما كنـﱠــا فيه، وما وصلنا إليه، وكي نرد شيئاً من الجميل الذي أسداه هذا القائد العظيم، المخلص لوطنه، الرءوف بشعبه، وكي نعترف بحجم المنجزات التي تحققت على أرض الوطن طوال الأعوام الماضية من عمر النهضة، فما تحقق لا ينكره إلا جاحد. كثير من المكتسبات تحققت ، وكثير من التحديات واجهتها الدولة واستطاعت التغلب عليها بفضل الإرادة القوية، والود المتبادل بين القائد وشعبه.
وبرغم تلك المنجزات والمكتسبات،وبرغم كافة الجهود المقدرة والمشكورة التي قامت بها الحكومة طوال سنوات النهضة المباركة، فلا يعني هذا أن نتوقف، وأن نتغنى بانجازاتنا، بل لابد من إكمال المسيرة، وأن نقف بين الفينة والأخرى لمراجعة سياساتنا المختلفة، ومدى توافقها مع التغيرات التي يمر بها العالم ، وأن نقف مع السلبيات والملاحظات التي قد تنجم عن تطبيق خاطئ لبعض السياسات، أو سوء تصرف من قبل مسئول ما.
ولكن.. هل مازالت عمان (قطعة من العالم القديم ..دجل وترﱠهات وخزعبلات..وظلام فوق ظلام..وأناس طيبون يروحون ويغدون)، وهل الوقت هو أرخص السلع في عمان؟ وهل عادت الأسنان تخلع بالدوبارة؟ وهل مازال الناس يأكلون المكرونة بالسكر، كما أورد استطلاع مجلة (العربي) وقتها؟
نظرة على ما تحقق خلال الفترة السابقة من عمر النهضة قد تكون جواباً كافياً وشافياً لكل التساؤلات السابقة. أليس كذلك؟
د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com
رائع ما سطرته استاذي ، ولك مني اجمل التحيات ، دائما عبق التاريخ يضخ ذهبا من أنامل اصابعك
ردحذف