عندما قررت الذهاب إلى معرض السلع والأدوات الاستهلاكيّة
مساء السبت الماضي كان يتجاذبني أمران: الأول وهو أمنية بأن أجد المعرض خالياً من
الزحام، وأن أجد موقفاً قريباً لسيارتي دون عناء الوقوف في مكان بعيد، خاصّة وأن
الجوّ كان بارداً، والأسر مرتبطة بموعد الاختبارات الفصليّة لأبنائها، كما أنّ
سكّان المحافظات البعيدة مرتبطين بدواماتهم الصباحيّة في اليوم التالي وبالتالي لن
يمكثوا في مسقط إلى هذا الوقت المتأخر.
أما الثاني فهو توقّع بأن أجد المعرض مزدحماً كعادتنا مع
كلّ معرض يقام، وأن كل ما ذكرته من أسباب لن يثني الأسر والأفراد عن زيارته حتى لو
كانت درجة الحرارة تدنّت إلى ما دون الصفر، وحتّى لو كانوا هم أنفسهم مرتبطين
باختبارات دراسيّة قد تحدّد مصيرهم المستقبليّ فيما بعد، فالمعارض بالنسبة للبعض
مكان لتغيير الجو، والحصول على بعض الترفيه، ومادة دسمة لجلسات العصر اليوميّة.
توكلت على الله وذهبت وأنا أضع يدي على قلبي كلّما
اقتربت من مكان المعرض، وما إن اقتربت من دوّار العرفان إلا وأدركت أن توقّعي قد
غلب أمنيتي، فالطابور طويل، والزّحام على أشدّه، ومع أنّ المعرض يفتح أبوابه مساءً
في تمام الرابعة، ومع أنني قد وصلت قبل هذا الموعد تحسّباً لما كنت أتوقّعه، إلا
إن مواقف السيارة (الكثيرة) كانت ممتلئة عن آخرها، وكأن كل هؤلاء البشر قد جلبوا
طعامهم وفرشوا بساطهم وجلسوا ينتظرون موعد الافتتاح المسائي، وكأن ما يوجد بالمعرض
هو شيء نادر وثمين يستحق الندم على التفريط فيه. في كل مرّة أرى هذه الأعداد
الغفيرة يساورني شكّ في نتائج تعداد السكّان الأخيرة.
أدخل المعرض فأرى أمامي مشاهد مختلفة للزائرين تتكرّر في
كلّ معرض يقام، هذه أسرة عمانيّة أصيلة تحلف وأنت تراها أنها قدمت من قرية بعيدة من
قرى عمان النائية، وأولئك صغار أحضرهم والدهم وذهب عنهم لارتباطه بموعد آخر، ولا
يخلو المشهد من شباب اعتادوا أن يجدوا في مثل هذه المعارض فرصة لممارسة هواية
(دنيئة) في تتبع الفتيات والإيماء بالإشارات، وكأنهم في حالة انفصال عن وسائل الاتصال الحديثة التي أتت بأساليب معاكسة
أكثر حداثة وسهولة. ولا بد أن يكتمل المشهد ببعض الفتيات اللواتي اعتقدن - أو صوّر
لهن - أن الحريّة تعني أن تخرج لوحدها في أيّ وقت تشاء، وأن تضع ما تشاء من مساحيق
مختلفة الألوان على وجهها، وكأنّها دمية (باربي). برأيي أن لحرّيّة المرأة ألف وجه ليس من بينها احتساء
الشاي لوحدها في (بابا روتي)، أو تناول الغداء مع الرفيقات في (تشيليز) وسط صخب
ضحكاتهن التي تملأ أرجاء المكان، أو عمل
(بارتي) عيد الميلاد في كارجين، أو أن تبدو
كـ (خيال المآته) في أي مكان تذهب إليه.
مشهد آخر لم يثر استغرابي ألا وهو الطابور الطويل الذي
سدّ باب المعرض أمام آلتي سحب النقود. يعلم كل الواقفين في الطابور أن المعرض
سيكون مزدحماً، وأن مكائن السحب إما أن تكون معطّلة، أو سيكون عليها زحام شديد،
وهم أنفسهم قد مرّوا في طريقهم إلى المعرض على عشرات الآلات الموجودة في كل محطة
نفط أو مركز تجاري ، ومع ذلك هي العادة نفسها. أن نكرّر نفس الخطأ في كلّ مرّة،
والا نتعلم من الأخطاء السابقة.
المشهد الثالث هو تكرار نفس الوجوه التي تراها في كلّ
مرّة. نفس العارضين تراهم في كل المعارض، وجلّهم غير عمانيين، وكأنّ ما يعرض هي
أشياء يستحيل على العماني أن يصنعها أو يقوم بعرضها، وكأنّه لا يوجد لدينا في عمان
من يبيع العسل العماني الأصلي، أو من يقوم بخياطة وتفصيل وتطريز الملابس العمانية
الأصيلة، والمفروشات المختلفة، أو من يقوم بتصنيع خلطات العطور والبخور.
مشهد رابع يمكن ملاحظته ويتعلّق بنوعيّة البضاعة
المعروضة، فلا يمكن أن تدخل معرضاً في عمان حتى ولو كان في فصل دراسي بإحدى
المدارس النائية دون أن تجد ركن العسل اليمني الأصلي الذي يشفي من كل أمراض الدنيا
التي استعصت على أمهر الأطبّاء، وكأنه شرط أساسي يتم الالحاح عليه عند التصريح
بتنظيم هذه المعارض، ولا يمكن أن تخطيء
عيناك رؤية ذلك الشاب الذي أصبح نجماً من نجوم المعارض بزيّه الخليجي وذقنه
المحلوق على الطريقة الحجازيّة، وهو يتنقل من مكان لآخر عارضاً على الفتيات روائح
لعطور (مضروبة) يقوم ببيعها، ولا تنس ركن الخلطات العشبيّة التي تعيد الشيخ
شابّاً، والمريض سليماً، وتعيد لك الرشاقة، وتمنع الصلع، وتقضي على البهاق والجرب
وحبّ الشباب والصدفيّة وقائمة أخرى تطول
من قوائم الوهم التي مازالت تجد الكثير من المعتوهين السذّج الذين يندفعون ورائها،
وهم يعلمون أنهم قد اشتروها قبل أشهر قليلة في معرض آخر ولم تجد نفعاً معهم. ألا
قاتل الله السذاجة.
بالطبع فكثير من هذه البضائع والسلع هي تجاريّة وغير أصليّة، وكثير من السلع الغذائية والمواد
التجميلية التي تعرض مغشوشة، وغالبية الخلطات العشبية المعروضة غير مصرح بتداولها لعدم وجود بطاقة البيان
وعدم معرفة مكونات الخلطات، وبالتأكيد لا توجد أسعار مثبّتة على كل سلعة، ولا وجود
لأية بيانات متعلقة بالمنشأ والصلاحية والمكونات،
ولكن كل هذا لا يهم. المهم هو أن نذهب لكي نرفّه عن أنفسنا قليلاً، حتى ولو كان ذلك على حساب جيوبنا وصحّتنا، وحتى
لو كنا مدركين أننا لا نستطيع أن نشتكي على أحد في حالة تعرضنا للنصب أو الغش من
قبل أحد العارضين، وقتها سيكون قد سافر إلى بلده مستمتعاً بما جناه من أموال تعبت
الحكومة كثيراً كي تعطينا إياها، وقمنا بتسليمها إليهم عن طيب خاطر. وربنا لا يقطع
لنا عادة.
تساؤلات دارت في بالي وأنا أتجوّل
(بصعوبة) في أرجاء المعرض من قبيل : متى سنرى معارضنا تعجّ بالباعة المحلّيين وبالبضائع
العمانية، وبالتالي نضمن أن جزءاً من (الملايين) التي تعطيها الحكومة لنا تبقى
داخل البلد لا خارجها، وما الذي يمنع أن نرى ركناً للحلوى أو العسل أو الملابس
العمانية المصنوعة بيد محلّية؟ هل هي الثقة الضعيفة؟ هل هي الثقافة السلبيّة تجاه
كل ما هو محلّي؟ هل هي الرسالة التي لا تصل إلى هؤلاء بكل شفافية ووضوح؟ وهل تخضع السلع المعروضة لإجراءات الفحص وبالتالي يتم ضمان جودتها وصلاحية استخدامها
للمستهلك؟ ولماذا نخصص أوقاتاً للنساء وللعائلات مادام أن أغلب الحضور في كل
الأوقات هم من هذه الفئات بالأساس؟ ولماذا لا نركز على المعارض الاستهلاكية الخيرية
التي تنظمها مؤسسات المجتمع المدني للمساعدة في حل مشاكل اقتصادية معينة؟ ولماذا
لا تشرك هيئة حماية المستهلك في لجان الاشراف على مثل هذه المعارض.
وقد يسأل سائل : ما دمت متشائماً إلى هذا
الحد فلماذا تحرص أنت على الذهاب إلى هذه المعارض؟
ياسيدي.. وما أنا إلا من غزيّة إن غوت
غويت.. وإن ترشد غزيّة أرشد
د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com