"يحكي التّاريخ العماني أنّه في عام 275هـ قرّر القاضي
موسى بن موسى أن الإمام الصلت بن مالك غير مؤهل ليستمر في منصبه لكهولته وشيخوخته فخرج
إلى نزوى لعزله ومبايعة راشد بن النظر إماماً، الأمر الذي رفضه عدد من العلماء وأيّده
آخرون ما لبثوا أن انقسموا إلى مدرستين فقهيتين، تلاه انقسام قبلي بين نزاريّة ويمنية،
وكان من نتائج ذلك الانقسام تولي أئمّة ضعاف مقاليد الحكم، ثم غزو محمد بن نور لعمان
تعصّباً لإحدى الفرقتين المنقسمتين، وإحداثه الفساد في البلاد، ثم تعرّضت عمان لغزوات
عديدة من قبل القرامطة والعباسيون والبويهيون وبنو مكرم وغيرهم بسبب الانقسامات التي
شرخت الصف العماني من جراء تداعيات عزل الامام الصلت وما تبعها من أحداث، وهو أمر
تكرّر بعد ذلك في نهاية عهد دولة اليعاربة عندما انقسم العمانيّون على أساس قبليّ
إلى هناويّة وغافريّة وما تلا ذلك من دخول الفرس عمان وسيطرتهم على عدد من المدن،
وإحداثهم القتل والدّمار والخراب في أرجاء شتّى من الوطن العمانيّ ".
الأمر الذي دعاني إلى البدء بهذه المقدّمة واستحضار جانب
من التّاريخ العماني هو حالة الإسهال التي انتابت مواقع التواصل الاجتماعيّ بمختلف
أنواعها من واتساب وفيس بوك وتويتر وغيرها تجاه قضايا خارجيّة بعينها، بحيث انتهت
كل الموضوعات والقضايا المجتمعيّة المهمّة ولم يعد لدينا من قضايا سوى مناقشة أمور
خارجيّة عدّة ليس لنا في بعضها أيّ دور مباشر، أمّا الأخطر من هذا وذاك فهي حالة
التخوين والاتهام بالميل للآخر والتي تحملها بعض هذه الرسائل والمنشورات بحيث أنّك
اذا اختلفت معي في الطّرح فأنت بلا شك إمّا مذهبيّ، أو أنّك لا تحبّ بلدك، أو أنّ
ولائك للآخر!! وهو أمر دخيل على مجتمع عرف بتسامحه وتماسكه وخلوّه على مدى سنوات
طويلة جداً من أيّة نعرات دينيّة تكدّر صفوه وتهدّد تماسكه عدا الفتن القبليّة
التي هدّدت هذا الاستقرار في بعض الفترات، والأسوأ من ذلك دخول أشخاص لا علاقة لهم
البتّة بقضايا كهذه في المعمعة، بحيث أصبحوا في بؤرة دائرة الاستقطاب، وتبنّي بعض
المثقّفين الذين يعوّل عليهم المساهمة في إصلاح المجتمع لبعض الآراء المنحازة
سلفاً انطلاقاً من توجّهات فكريّة معيّنة متناسين أنّ دورهم هو محاولة الحدّ من ظواهر
كهذه لا المساهمة فيها!!
وللأسف فأمر كهذا يحزنني عندما أرى بعض أبناء بلدي يكيلون
التهم لبعضهم البعض بعيداً عن أسلوب الحوار المشترك القائم على احترام كل طرف لآخر؛
وهذا الأمر لو تم التوسع فيه لربما يكون أول مسمار يهدّد وحدتنا وتكاتفنا ولحمتنا الوطنية؛
وهذا هو الدرس الذي فشلت فيه بعض الشعوب عندما وسّعوا نقاط اختلافهم على حساب مساحات
اتّفاقهم؛ وجعلوا من أنفسهم فسطاطين تقوم غالبية أفكار نقاشهم على تحزّبات ضيّقة؛ ويستهلكون
أوقاتهم في مناقشة قضايا قد لا تهم وطنهم كثيراً بل تقلّل من مساحة خدمته والارتقاء
به.
أنا أرى وأعتقد جازماً أن الوطن مقدّم على كل شيء؛ فالدين
لله والوطن للجميع؛ ويمكنني أن أمارس كافّة طقوسي في بيتي ومسجدي؛ ولكن عليّ أن أعي
ان بني جلدتي من أبناء وطني هم الأقرب إليّ من أيّ طرف آخر؛ فأنا وهم تجمعنا هويّة
مشتركة أساسها الوطن، والجغرافيا، والتاريخ المشترك، والموروث الثّقافي، والقيادة
السياسيّة؛ وبدون تلاحمنا معاً فلن نرتقي بوطننا؛ وفي نفس الوقت لن يأتي الآخر الخارجي
ليهيئ لنا وطناً بديلاً؛ فمصيري متعلق بوطني؛ وبأبنائه؛ ولا سبيل لنا إلا التعايش والوئام؛
والانطلاق من النقاط المشتركة التي تجمعنا كي نسهم في الحفاظ على مجتمعنا قويا متماسكا؛
ولنا في التاريخ والأحداث الجارية عبرة وعظة.
إنّني أرفض الطرفين: من يهاجم الآخرين لمجرد اختلاف فكريّ
أو مذهبيّ وفي الوقت ذاته يصم مخالفينه في الرأي بالعمالة متناسياً أن الآخر قد ينطلق
من نفس الفكر؛ وكذلك من يدافع عن سياسات دول أخرى لمجرد أنّه ينتمي لنفس مذهبها الفكري
أو الديني، وكما أرفض من يؤيد هذه الدولة أو تلك في كل خطوة لمجرّد أنّها محسوبة على
فكر معيّن، فأنا أرفض في الوقت ذاته من يهاجمها في كلّ ساعة لمجرد أنّها من فكر
مختلف، فالاختلاف أو الاتفاق ينبغي أن يبنى على أسس علميّة بحتة لا علاقة لها بتاتاً
بالاختلافات العرقية أو الطائفية أو المذهبيّة.
علينا التعامل مع القضايا المختلفة بشكل واقعي وعلميّ
بعيداً عن عاطفتنا أو ميولنا الفكرية أو المذهبية، وعلينا أن نفرّق بين العمالة وضعف
الوعي الفكري؛ فمواقع التواصل الاجتماعي ليست مقصورة على فئة فكرية بعينها؛ ويمكن
أن تجد فيها الغثّ والسمين؛ كما أن هناك معرّفات وهميّة كثيرة خاصة تلك التي تنتحل
أسماء شخصيات معروفة بهدف إحداث بلبلة مقصودة؛ فلا يفترض أن أعتقد أنّ من يحاورني
هو بالضرورة على مستوى عال من الوعي والثقافة وتقبل الرأي والرأي الآخر.
كما أنّ بعض الردود قد ناتجة عن ضيق فكري معيّن؛ وقد
يكون سببها تعصّب أو اعتقاد بأن الخطاب موجّه لهم خاصة لو كان يمس جوانب دينية
معينة؛ وقد يكون سببه كذلك أن طارح الموضوع يتعمّد في منشوره أو تغريدته أو مقاله
توجيه سهام نقده إلى طرف بعينه مما يوحي للطرف الآخر أن الهدف مما كتب هو النقد
السلبي فقط.
اتهامات الخيانة أو العمالة هي اتهامات كبيرة واطلاقها
لا يجب أن يأتي بهذه السهولة لمجرد أن ذلك الشخص له رأي مخالف، أو أنّه لا يتمتع
باللياقة الفكرية العالية؛ أو لا يمتلك إمكانات النقاش؛ أو أن المنشور ذاته به
استفزاز معين خاصة في ظلّ تعدّد المذاهب والأفكار السياسيّة وتعدد انتشارها.
إنّ وطننا بحاجة إلى كلّ ذرّة جهد، وكلّ طاقة لدينا.
بحاجة إلى لحمتنا وتماسكنا. بحاجة إلى فكرنا ورؤيتنا كي نجعله في أفضل حال. فليس
عيباً أن نختلف في تحليلنا ومقترحاتنا فيما يتعلّق بنظرتنا لسياساتنا الداخليّة في
مختلف المجالات، وليس خطأ أن يأتي بعضنا بحلول ومقترحات قد تختلف مع الآخر، ولكن
الخطأ كلّ الخطأ أن نشتّت جهودنا، ونفرّق قوانا وامكاناتنا في مناقشة قضايا قد
تكون هامشيّة مقارنة بقضايانا المحلّيّة، فالوطن في أمسّ الحاجة إلينا اليوم أكثر
من ذي قبل، والوطن هو الخطّ الأحمر بل هو الحزب والمذهب الوحيد الذي يستحقّ
تعصّبنا أو دفاعنا من أجله، وهو الكيان الذي تذوب فيه جميع اختلافاتنا على شتّى
أنواعها.
ما أأمله وأتمنّاه أن نهتم في منشوراتنا المختلفة بالتركيز
على الجوانب التي تخدم مصالح مجتمعنا وتعزّز من وحدته؛ وترفع من شأنه، وتعالج
قضاياه، وهناك كثير من القضايا المجتمعيّة التي تستحقّ وقتنا وفكرنا وإمكاناتنا،
ولو اهتممنا بالشأن الخارجي أكثر من نظيره الداخلي فنحن نفتح على أنفسنا أبوابا
عدة قد تدخلنا في متاهات يصعب الخروج منها، وما أأمله أكثر هو أن نعيد النظر في
منظومتنا التعليميّة، وما تشكّله من مخرجات.