الأربعاء، 25 فبراير 2015

وجه من بلادي (1)

لطالما رأيته يعبر الشّارع القريب من بيتنا كلّ صباح ومساء لوحده أو برفقة أخيه الأكبر (عاجب) وكأنّهما توأمان ملتصقان لا يكادان يفترقان، في خطوات هادئة ومحفوظة لم أرها تتغيّر ولو لمرّة واحدة. يسلّمان على هذا، ويبتسمان لذاك في تواضع لم أر مثله في حياتي، وأنا أسأل نفسي في كلّ مرّة أراه فيها: إلى أين يذهب هذان الرّجلان كلّ صباح ومساء! ولماذا لم أرهما يوماً ما راكبين سيّارة! ولماذا كل هذا التواضع والسّلام الحقيقيّ في مشيتهما، حتى غدت هاتان الشخصيّتان بالنّسبة لصبيّ في مثل سنّي بمثابة أسطورة لا يمكن تناسيها بسهولة!.

طوال أكثر من ثلاثين عاماً قضاها (سعيد بن زعيل) موظّفاً في سلك التّربية والتّعليم لم يتغّيب يوماً واحداً عن العمل، ولم يحضر إجازة طبّيّة مضروبة من أجل التحايل على الدّوام، بل ولم يتأخّر مرّة عن موعد حضوره الصّباحيّ اليوميّ كأحد أوائل الموظّفين الذين يصلون إلى المؤسّسة على الرّغم من أنّ منزله يقع في ولاية أخرى تبعد عن مقرّ عمله بحوالي 30 كيلومترا، وعلى الرّغم من أنّه لا يمتلك سيّارة حكوميّة أو خاصّة أو باصاً يقلّه كلّ يوم مع زملائه الآخرين، لذا كان البعض يضبط ساعته على موعد حضوره وانصرافه!!

وعلى الرّغم من أنّه لا يمتلك حاسوباً شخصيّاً، ولم يأخذ دورة في ذلك، إلا أنّ سعيداً يحفظ ملفّات مؤسّسته وأرشيفها كما يحفظ أسماء أبنائه، فبمجرّد ذكر عنوان المعاملة أو تاريخها يأتي بها من وسط آلاف الملفّات المتراكمة، وكأنّ جهازاً حسّاساً قد ثبّت بمخّه، فمن أين لشخص أن يلمّ بكلّ تفاصيل عمله ما لم يعشقه ويخلص له ويرى أنّ في القيام بكلّ ما يتطلّبه رسالة وواجبا قد يحاسب عليه يوماً ما!.

وطوال سنوات عمله الطّويلة، وعلى الرّغم من إخلاصه الشّديد في العمل كحالة (استثنائيّة) تثير إعجاب من حوله ودهشتهم، إلا أنّه لم يتذمّر يوماً واحداً من طبيعة عمله، ولم يشتك من ضيق مكتبه، أو تأخّر ترقيته، أو عدم مساواته بآخرين سبقوه في الحصول على ترقية أو مكافأة أو علاوة استثنائيّة، ولم يتنقّل من مكتب لآخر يشتكي لهذا، ويذمّ في ذاك، ويندب حظّه السّيئ، بل إنّ الحالة الوحيدة التي يتكلّم فيها في حديث خارج عن العمل هو عند ترحيبه بالآخرين وسؤالهم عن (أخبارهم وعلومهم) عندما يحلّوا ضيوفاً على المؤسّسة، أو مراجعين لها، فشعاره دائماً "قليل من الكلام.. كثير من العمل"!

سعيد بن زعيل ربّما لم يسمع يوماً عن مصطلح (المواطنة)، ولم يدع مرّة إلى المشاركة في مؤتمر أو ندوة أو ورشة عمل تتعلّق بالحوار المجتمعي، أو الوئام الإنسانيّ، أو المواطنة الصّالحة، ولا يمتلك صفحات شخصيّة على مواقع التّواصل الاجتماعيّ يعرض فيها كلّ صباح (في ساعات عمله اليوميّة) صوره وهو ذاهب أو قادم من رحلة خارجيّة بعد أن مثّل عمان في مؤتمر هنا أو هناك، أو وهو يتصفّح كتاباً عن الطّريقة المثلى لبناء الأوطان، كما أنّه لم (ولن) يدعي يوماً كضيف شرف في أحد البرامج الإعلاميّة أو المجتمعيّة التي تنظّمها عشرات الجهات للحديث عن تجربته كرائد من روّاد العمل الوطني، أو كأنموذج مهم من نماذج العطاء، فدعوات كهذه لا تخصّص لأمثاله بل هي لأصحاب (الدشاديش) المكويّة بعناية، واللّحى المشذّبة بدقّة، والخناجر ذات القرون المستخرجة من عاج الفيل وقرون الغزلان!!.

سعيد بن زعيل هو مواطن حقيقيّ آمن أنّ المواطنة الحقيقيّة تكمن في التعايش بسلام مع الآخرين، وفي كفّ الأذى عنهم، وعدم التّدخلّ في شؤونهم، وفي تأدية العمل بصدق وإخلاص دون انتظار لمقابل، وفي تربية أبنائه التربية الصّالحة بحيث يكونوا إضافة لا عبئاً على هذا الوطن! لذا يندر أن تذهب إلى أيّ عزاء يقام داخل الولاية أو الولايات القريبة دون أن تراهما حاضران في آخر الصّف دون انتظار لمن يقرّبهما لوسطه، ويندر أن تذهب لتأدية صلاة الجمعة في جامع الولاية الأثريّ دون أن تلمحهما في الصّفّ الأوّل من المصلّين، ويستحيل أن تجد من يشتكي (ولو مجرّد الشكوى) من أنّ ابناً لهما قد تعدّى على آخرين بلفظ أو بجملة أو بتصرّف خارج، فهم السّلام ذاته مجسّداً على الأرض بحسن أخلاقهم وتعاملهم مع الآخرين.

لا أعلم الغيبيّات، وأؤمن بأنّ الله وحده هو من يملك أمر الثواب والعقاب، ولكن إن قدّر للبعض أن يدخلوا الجنّة دون حساب فسيكون سعيد وأخوه (عاجب) من ضمن هؤلاء بلا شك!.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.