كانت الساعة تشير إلى الخامسة عصراً من مساء يوم صيفي قائظ، وقتها كنت في طريقي إلى السوق القريب لقضاء بعض المستلزمات، عندما استوقفني ذلك المشهد الذي سيظل ماثلاً في مخيّلتي لسنوات قادمة دون قدرة على نسيانه.
عجوز يبدو من ملامح وجهه التي عركتها تجارب السنين وطحنتها ملمّات صعبة مرّ بها أنه تجاوز السبعينات بسنوات، أسمر البشرة، بسيط الملابس، حافي القدمين، يحمل عصاه الخشبية في يده اليمنى بينما تكفلت اليسرى بحمل كيس بلاستيكي داكن اللون ممزق في بعض جوانبه، كان يجمع شيئاً من الأرض في الشارع القريب من منزلنا، عندما تجاوزته بسيّارتي المكيّفة المغلقة نوافذها بإحكام كي لا يتسرب شيئاً من الغبار أو الهواء الساخن يكدّر عليّ صفو لحظات حياتية مؤقتة.
شدّني الموقف فهدّأت من سرعة السيارة كي يتسنى لي مراقبة ما يفعل هذا (الشيبة)، بينما أفكاري السّوداويّة تعبث بي موحية لعقلي الباطن أنه يجمع بعضاَ من (المعدن) كي يبيعه على أحد تجار الخردة مقابل فتات من البيسات يسدً بها رمق يومه.
وكأني أمثّل دور الكريم مع المحتاج، ترجّلت من سيارتي واضعاّ في يدي اليمنى (بضعة) ريالات كي أدسّها في يده عائداً بعدها بنشوة الفارس الذي صارع الأعداء وانتصر عليهم بعد جهد جهيد، وكأن عمل الخير أصبح شيئاً ثقيلاً على القلب، أو لكأنه بات أقرب إلى الأعمال البطولية الخارقة في هذا الزمان.
مع اقترابي من الرجل اتضح لي حقيقة ما يفعل، فهو لم يكن يجمع الخردة ولا بقايا العلب كما اعتقدت، إنه (يلمّ) المهملات الملقاة على الشارع ويزيحها جانباً، مستخدماً في ذلك عصاه التي تطاوله في العمر، وكيسه المهترئ. إذاً أفكاري السوداء أودت بي إلى شطآن أخرى بعيدة، تباً للمقالات السوداء التي أكتبها أنا وغيري أحياناً.
شعر الرجل باقترابي منه فأقبل مرحّباً بابتسامة عفوية لم تختلط ببقايا نفاق أو تزلّف، سائلاً عن علوم وأخبار جديدة قد أحملها، وهي عادة تناساها البعض تحت وطأة الانفتاح المادي والتكنولوجي والأخلاقي، وبيد مرتبكة دسست ما حملته في يده مع عدم قدرتي على تبرير ما فعلته.
بكل نقاء الدنيا خرج صوته صافياً وكأنه صوت ملاك في قصة أطفال قبل النوم: ولدي أنا ما أريد فلوس. ثم أشار إلى المسجد القريب مبتسماً وهو يقول: هذا بيت الله وما يصير (نخلّي) الأوساخ تتجمّع أمام بابه، الرسول أمرنا بالنظافة، ما كذا درّسوكم ولدي؟
يا للغرابة. كنت أعتقد أنني بريالاتي القليلة سأقدًم له العون، وأعود إلى سيارتي المكيّفة مزهوّاً منتشياً، كنت أعتقد أنني ومن معي من الجيل المتعلم المثقّف وحدنا من نحتكر المعرفة، وحق التفلسف وتقديم النصح للآخرين حول قضايا المجتمع والقيم والأخلاق، بينما ما حدث هو العكس، هو من ساعدني ومنحني الكثير من تساؤلات الدهشة حول القيم وغيابها في هذا الزمن، زمن العلم والتكنولوجيا والهواتف الذكية بكل حكم (الواتساب)، وقصص (الفيسبوك)، ونصائح تغريدات (التويتر).
تركته وملايين الأسئلة الحائرة تتصارع في مخّي الذي لم يعد قادراّ على الاستيعاب: هذا العجوز يقول لي إن هذه الأرض أعطتنا الشيء الكثير، فهل من الصعب أن أزيح عنها بعض الغبار العالق بها، وهل من الحرام أن أحتضنها وأحتويها، وهل من الغرابة أن أزيح عنها الحجر والمدر، هل تستكثرون عليّ ما أفعله؟
هو يقول كذلك: إن الأرض تتأذى مثلنا وتتألم، فهل كثير عليها أن نطهّر جراحها المفتوحة، ونداويها، ونزيل عنها الندوب؟
هو يسألني كذلك: هل تغيّر الرّفاهيّة من انتمائنا للأرض التي احتوتنا واحتضنتنا، وهل المؤثرات المختلفة التي نعيشها الآن لها دور في نزع أو (تضعضع) انتمائنا لها مع أنها هي ذاتها مصدر هذا الترف الذي نعيشه.
ترى لماذا أصبح منظراً كهذا يثير التساؤل والاستغراب مع أنه ينبغي أن يكون منظراً اعتيادياً طبيعياً، ولماذا نرى هذا السلوك لدى كثير من أفراد الجيل السابق ولا نراه في أجيالنا الحالية العصريّة المتعلمة النظيفة المثقّفة، ولماذا نصبّ جام غضبنا كل صباح على الحكومة وسياساتها، بينما نعجز عن إزاحة حجر ملقى أمام أعيننا.
إنه بما قام به يجعلنا في حرج شديد أمام عشرات الكتب والبرامج واللقاءات والندوات والورش التي نتغنى فيها بالمواطنة والهويّة والعولمة وأهمية الانتماء، بينما تأتي السلوكيات اللاحقة لكل ذلك متنافية في كثير منها مع واقع ما يتم طرحه.
إنه يطالبنا بأن نحذو حذوه وهو الرجل الطاعن في السن، وإذا لم تكن لدينا القدرة على فعل ذلك، فلنكف فقط عن أي سلوك قد يضير بالبيئة.
إن هذا (العجوز) بما فعله يفتح باباً للأمل، يزيح الأتربة عن فتحات كثيرة مسدودة كي تعبرها نسمات الخير والعطاء، إنّه ينفض الغبار ويتحمل أضراره كي ننعم بهواء نقي، إنه يدعونا لصنع علاقة متجددة مع الأرض، إنه.. يهبنا الأمل.
د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com
عجوز يبدو من ملامح وجهه التي عركتها تجارب السنين وطحنتها ملمّات صعبة مرّ بها أنه تجاوز السبعينات بسنوات، أسمر البشرة، بسيط الملابس، حافي القدمين، يحمل عصاه الخشبية في يده اليمنى بينما تكفلت اليسرى بحمل كيس بلاستيكي داكن اللون ممزق في بعض جوانبه، كان يجمع شيئاً من الأرض في الشارع القريب من منزلنا، عندما تجاوزته بسيّارتي المكيّفة المغلقة نوافذها بإحكام كي لا يتسرب شيئاً من الغبار أو الهواء الساخن يكدّر عليّ صفو لحظات حياتية مؤقتة.
شدّني الموقف فهدّأت من سرعة السيارة كي يتسنى لي مراقبة ما يفعل هذا (الشيبة)، بينما أفكاري السّوداويّة تعبث بي موحية لعقلي الباطن أنه يجمع بعضاَ من (المعدن) كي يبيعه على أحد تجار الخردة مقابل فتات من البيسات يسدً بها رمق يومه.
وكأني أمثّل دور الكريم مع المحتاج، ترجّلت من سيارتي واضعاّ في يدي اليمنى (بضعة) ريالات كي أدسّها في يده عائداً بعدها بنشوة الفارس الذي صارع الأعداء وانتصر عليهم بعد جهد جهيد، وكأن عمل الخير أصبح شيئاً ثقيلاً على القلب، أو لكأنه بات أقرب إلى الأعمال البطولية الخارقة في هذا الزمان.
مع اقترابي من الرجل اتضح لي حقيقة ما يفعل، فهو لم يكن يجمع الخردة ولا بقايا العلب كما اعتقدت، إنه (يلمّ) المهملات الملقاة على الشارع ويزيحها جانباً، مستخدماً في ذلك عصاه التي تطاوله في العمر، وكيسه المهترئ. إذاً أفكاري السوداء أودت بي إلى شطآن أخرى بعيدة، تباً للمقالات السوداء التي أكتبها أنا وغيري أحياناً.
شعر الرجل باقترابي منه فأقبل مرحّباً بابتسامة عفوية لم تختلط ببقايا نفاق أو تزلّف، سائلاً عن علوم وأخبار جديدة قد أحملها، وهي عادة تناساها البعض تحت وطأة الانفتاح المادي والتكنولوجي والأخلاقي، وبيد مرتبكة دسست ما حملته في يده مع عدم قدرتي على تبرير ما فعلته.
بكل نقاء الدنيا خرج صوته صافياً وكأنه صوت ملاك في قصة أطفال قبل النوم: ولدي أنا ما أريد فلوس. ثم أشار إلى المسجد القريب مبتسماً وهو يقول: هذا بيت الله وما يصير (نخلّي) الأوساخ تتجمّع أمام بابه، الرسول أمرنا بالنظافة، ما كذا درّسوكم ولدي؟
يا للغرابة. كنت أعتقد أنني بريالاتي القليلة سأقدًم له العون، وأعود إلى سيارتي المكيّفة مزهوّاً منتشياً، كنت أعتقد أنني ومن معي من الجيل المتعلم المثقّف وحدنا من نحتكر المعرفة، وحق التفلسف وتقديم النصح للآخرين حول قضايا المجتمع والقيم والأخلاق، بينما ما حدث هو العكس، هو من ساعدني ومنحني الكثير من تساؤلات الدهشة حول القيم وغيابها في هذا الزمن، زمن العلم والتكنولوجيا والهواتف الذكية بكل حكم (الواتساب)، وقصص (الفيسبوك)، ونصائح تغريدات (التويتر).
تركته وملايين الأسئلة الحائرة تتصارع في مخّي الذي لم يعد قادراّ على الاستيعاب: هذا العجوز يقول لي إن هذه الأرض أعطتنا الشيء الكثير، فهل من الصعب أن أزيح عنها بعض الغبار العالق بها، وهل من الحرام أن أحتضنها وأحتويها، وهل من الغرابة أن أزيح عنها الحجر والمدر، هل تستكثرون عليّ ما أفعله؟
هو يقول كذلك: إن الأرض تتأذى مثلنا وتتألم، فهل كثير عليها أن نطهّر جراحها المفتوحة، ونداويها، ونزيل عنها الندوب؟
هو يسألني كذلك: هل تغيّر الرّفاهيّة من انتمائنا للأرض التي احتوتنا واحتضنتنا، وهل المؤثرات المختلفة التي نعيشها الآن لها دور في نزع أو (تضعضع) انتمائنا لها مع أنها هي ذاتها مصدر هذا الترف الذي نعيشه.
ترى لماذا أصبح منظراً كهذا يثير التساؤل والاستغراب مع أنه ينبغي أن يكون منظراً اعتيادياً طبيعياً، ولماذا نرى هذا السلوك لدى كثير من أفراد الجيل السابق ولا نراه في أجيالنا الحالية العصريّة المتعلمة النظيفة المثقّفة، ولماذا نصبّ جام غضبنا كل صباح على الحكومة وسياساتها، بينما نعجز عن إزاحة حجر ملقى أمام أعيننا.
إنه بما قام به يجعلنا في حرج شديد أمام عشرات الكتب والبرامج واللقاءات والندوات والورش التي نتغنى فيها بالمواطنة والهويّة والعولمة وأهمية الانتماء، بينما تأتي السلوكيات اللاحقة لكل ذلك متنافية في كثير منها مع واقع ما يتم طرحه.
إنه يطالبنا بأن نحذو حذوه وهو الرجل الطاعن في السن، وإذا لم تكن لدينا القدرة على فعل ذلك، فلنكف فقط عن أي سلوك قد يضير بالبيئة.
إن هذا (العجوز) بما فعله يفتح باباً للأمل، يزيح الأتربة عن فتحات كثيرة مسدودة كي تعبرها نسمات الخير والعطاء، إنّه ينفض الغبار ويتحمل أضراره كي ننعم بهواء نقي، إنه يدعونا لصنع علاقة متجددة مع الأرض، إنه.. يهبنا الأمل.
د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.