كوميديا بلون الدم
كفن أسود ملطّخ بدم أسود غامق، وهل هناك دم أسود، بل هل من
أسود غامق، الأسود هو الأسود. نعم يعقل عندما يكون اللون خارجاً عن إطار المألوف ،
ولكن لماذا الكفن الأسود، هل لأنه رخيص ويمكن الحصول عليه بسهوله، هل أقصد شيئاّ
آخر كالضمير مثلاً؟
وكأن قصص حوادث السير التي نسمع عن مآسيها الدامية كل
يوم لم تعد كافية لصنع مزيد من التشويق والإثارة فكان لزاماً البحث عن ضحايا جدد
لهذا الغرض، وكأن أبواب الرزق سدّت لدى البعض إلا من خلال إزهاق أرواح بريئة من
أبناء هذا الوطن وزهرة شبابه وعماد بنائه، وكأنّه لا قنطرة للعبور إلى مصاف الغنى
واختصار الوقت في تكوين النفس والعودة إلى الوطن الأم بشوالات النقود سوى بـ(الدّوس)
على عظام وجماجم أناس كلّ ذنبهم أنهم
يعيشون في وطن أهله ومسئوليه أطيب من اللازم.
هو فصل جديد من رواية مملّة، أو حلقة متجددة من مسلسل
سخيف تكرّر عرضه في الآونة الأخيرة، أبطاله فئة تنظر إلى الوطن على أنه بلد "الفرص
الممتنعة السهولة"، كما لقّنهم من سافر قبلهم من أبناء جلدتهم، مستغلّين في
ذلك قوانين ما زالت قاصرة عن مجابهة (تغوّلهم)، ويشجعهم على ذلك فئة من أبناء هذا
الوطن، أتوا بهم كي يعبثوا في نسيج هذا الوطن فكرياً واجتماعياً لمجرد نظرة بعضهم
أن حفنة المال التي ستضاف إلى جيوبهم (المتخمة) هي أكثر أهمية من مواطن بسيط ينظر
بعين الحسرة لهذا الوافد الذي جلبوه كي يشاركه في رزقه، بعدما أوهموهم أنهم أكثر
إخلاصاً وصدقاً ووفاءً وإنتاجية من أبناء جلدتهم.
تبدأ فصول الرواية عندما اكتشف رجال الهيئة العامة
لحماية المستهلك قيام بعض العمّال في إحدى المؤسسات التي تحمل اسماّ عمانيّاّ
بامتياز، بإعادة تصنيع وتلميع إطارات مختلفة الأحجام مستعملة ومنتهية الصلاحيّة،
وبيعها للمستهلك على أنها صالحة للاستخدام، فيشتريها المستهلك المسكين هرباً من
سعير أسعار الوكالات المعتمدة، واعتقاداً ساذجاً منه أن هناك من القوانين
والتشريعات ما تمنع أمثال هؤلاء من التمادي إلى هذا الحد.
يقال في كتب التاريخ والأدب أن الرقم (13) هو رقم مشئوم
لدى بعض الشعوب، فهل كانت مصادفة أن يكون هذا الرقم هو العدد الفعلي للعمّال الذين
تم ضبطهم وهم يقومون بهذا العمل. ترى هل هم الضحيّة أم الجلّاد، هل هم ضحية القهر
والفقر والجهل والطبقيّة في بلدانهم، وهل قلوبهم بالفعل مغلقة بذات المطّاط الأسود
الملطّخ بلون الدم، أم أننا السبب بلامبالاتنا، وعدم اهتمامنا، و(فشخرتنا) الزائدة
عن الحد أحياناً.
وأنا أسترجع ذاكرة كثير ممّن فقدتهم من معارف وأحبّة ممّن
اختلطت دمائهم القانية بلون أسفلت الشوارع، ترى كم منهم من كان ضحية لعبث كهذا، كم
واحد منهم ذهب لشراء كفنه الأسود واختار أداة قتله رغماً عنه، وهو لا يدرى أن هناك
من زرع له أربعة قنابل سوداء سرعان ما تنفجر مخلّفة ورائها أحلاماّ ضائعة لن تتحقق،
وبراءة أطفال لن تكتمل، وحسرة ثكلى لن تنتهي، ودموع عجوز لن تجف.
وقد يقول قائل: أوليست الأسعار المبالغ فيها للإطارات
والتي توازي أحياناّ قيمة سيارة مستعملة هي من الأسباب التي تجعل البعض يلجأ إلى
شراء مثل هذه الإطارات حتى لو كانوا يعلمون بداخلهم أنها مقلّدة أو غير أصلية، وهل
ستكون كافة رسائل التوعية المختلفة كافية لإقناعهم بأخذ الحيطة والحذر في ظل
معاناتهم من هذه الأسعار الناريّة.
وقد يضيف آخر: ترى هل يتم فحص الإطارات لدى الجهات
المعنّية عند تجديد السيارات كل عام، بل هل لدينا بالأساس مراكز لفحص السيارات بما
فيها الإطارات بشكل تقني متكامل؟
ويبقى السؤال الأبدي الذي سنتجاهله بعد أيام: لماذا كل
هذا، ومتى سننتهي من هذه الكوابيس التي تلاحقنا كل صباح ومساء، تارة عن حلويًات
منتهية، وحيناً عن غذاء فاسد، ومّرة عن إطار مغشوش، وعشرات الكوابيس الأخرى التي أصبحت
تقلق المضاجع وتسمّ الأبدان.
وإلى متى ستظل الهيئة العامة لحماية المستهلك تكتفي في
كل مرّة بالكشف عن (بلاوي) كهذه وغيرها، في ظل تجاهل حكومي رهيب لمتطلبات أساسية
تعينها على استكمال دورها المهم كالمختبرات العلميّة المجهّزة، ومراكز الفحص
المتكاملة، والقوانين الرادعة التي تعينها على أداء مهامها، وأشياء أخرى كثيرة أرى
أنه من العبث أن أعيد ذكرها في ظل إصرار البعض على النظر إلى الهيئة كمنافس سحب
البساط من تحت أقدامهم لا كشريك حقيقي في حماية هذا الوطن.
وماذا لو عاني المسئول من همّ شراء (الراشن) الشهري، أو
في كيفية توفير قيمة إطار جديد لسيّارته، ألم تكن لمشاكل كهذه يعانيها غيره من أن
تحلّ أو أن يحدّ منها على سبيل المثال؟ وهل لمسئول يأتيه راشنه إلى باب بيته، أو
تصان سيّاراته الحكوميّة والخاصّة الفارهة، وتغيّر إطاراتها كل شهر، أو أن تصله
سلال الخضار والفواكه مغسولة طازجة أن يفكّر (مجرّد التفكير) في حلول حقيقية ناجعة
لمشاكل وقضايا مجتمعية قادر على وضع الحلول والمقترحات والقوانين لها لو رغب في
ذلك.
سنظل نتحدث كثيراً وكثيراً عمّا يسمى بالأمن الغذائي،
وعن مقترحات يمكن لطفل الروضة أن يقترحها من قبيل تشجيع الاستثمار في المجالات
الزراعية والسمكية والرعويّة، واستقدام الأفكار الخلّاقة المطبّقة في أماكن أخرى
من العالم، ومراجعة القوانين والتشريعات في هذا الجانب، بدلاً من الحديث كلّ مرّة
عن ارتفاع الأسعار، ومن المضحك المبكي أن يأتي يوم على بلد اشتهرت على مدى تاريخها
الطويل بوفرة انتاجها من السمك والتمور، وتضطر الى استيراده.
يبدو أننا سنستمر كثيراً في محاولة علاج الأعراض بدلاً
من علاج الأسباب.
د. محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.