تنــاقضــات.. رمضانيّة
كان سؤالاً مباغتاً ذلك الذي وجّهه لي أحد طلابي : هل
نحن بحاجة بالفعل إلى شهر رمضان أم أنه أصبح عبئاً ثقيلاً علينا، وماذا سيحدث لو
اجتمع علماء المسلمين وقرروا عدم الحاجة إلى صوم الشهر لانتفاء الأغراض والحكم
التي وجدت من أجله؟
قبل أن أجيبه مستنكراً أكمل قائلاً: ما أعلمه وما درسته
أن رمضان هو بمثابة محطّة توقّف لمسافر في طريق طويل، يتوقّف لكي يراجع خارطة
طريقه، إن كان في الاتجاه الصحيح أم لا، بمعنى أنّنا في خضم أمواج حياتنا
المتلاحقة نحتاج إلى فترة توقّف نراجع فيها كثيراّ من سلوكيّاتنا الدّينيّة
والاجتماعية والاقتصادية والصحيّة وغيرها، ونحاول تعديل بعض هذه السلوكيّات بحيث
تتعدّل بوصلة مسارنا، ونطمئن أننا في المسار الصحيح. أليس كذلك.
قلت له : بلى، ولكن لم كل هذا التشاؤم دون بقية الخلق.
قال : من هول التناقضات التي أراها في هذا الشهر والتي
تختلف عمّا كنت أسمعه -وما زلت – من أن هذا الشهر هو شهر الخير والبركة والتراحم والتعاطف
والتعاضد والإحساس بالآخر، وغير ذلك من الأطقم الجميلة التي نسمعها ونقرأها صباح
مساء. دعني أعطيك بعض الأمثلة البسيطة على هذه التناقضات، لن أحدثك عن العالم
الإسلامي وقضاياه الاجتماعية الكثيرة فهذا موّال آخر لا ينتهي. فقط سأطرح أمثلة مجتمعيّة بسيطة علّ ذلك يقرّب لك
الرسالة التي أودّ إرسالها إليك.
من التناقضات المرتبطة بسلوكيات
البشر في هذا الشهر امتلاء المساجد بالمصلين في الأيام الأولى، والحرص على صلاة
الفجر جماعة، والإكثار من قراءة القرآن، بحيث تراهم في أركان المساجد والإيمان والورع يتجلّى في نفوسهم، وتكون
الدمعة أقرب إلى النزول. أين كثير من هؤلاء بقية أيام السنة، ولماذا لا تكون
المساجد عامرة بهم سوى في رمضان، هل الحساب في رمضان يختلف عن بقية الشهور؟
خذ عندك شيء آخر : ما إن يأتي رمضان إلا وتجد التواصل الاجتماعي
من خلال زيارات الأقارب والأرحام، وتوزيع الصدقات، وتبادل الوجبات بين البيوت، وتوزيعها
على المساجد. لماذا يقل هذا
التواصل بقيّة السنة، هل يختفي الأهل والجيران فجأة ويسافرون إلى كوكب آخر، ألا
تجوز الصدقة إلا في هذا الشهر، وهل ينعدم الفقراء والمساكين والمحتاجين ولا يظهرون
سوى في رمضان؟
أيضاَ من التناقضات
المرتبطة بهذا الشهر ارتفاع أسعار كثير من السلع قبل أيام قليلة من
قدومه، ارتفاع لا تعرف له سبباً حقيقياً، فالناس هم الناس، والسكان لا يزيدون فجأة
خلال هذا الشهر، ومعظم الحاجات الاستهلاكية يطلبها الناس طوال العام، والوجبات
تتقلص إلى وجبتين بدلاً من ثلاث، فلماذا الارتفاع المفاجئ في الأسعار قبل يومين أو
ثلاثة من ابتداء رمضان؟ أوليس رمضان هو شهر التراحم والاحساس بالآخر، فلماذا يضرب كثير من هؤلاء بعرض الحائط لحرمة
هذا الشهر التي تتطلب تسامحهم وتساهلهم، ومراعاة آداب البيع والشراء التي حثت
عليها تعاليم الدين الحنيف، لماذا يغالي الصيّاد في سعر أسماكه حتى يطاولها
العنان، ولماذا يعتقد المزارع فجأة أن
محصوله يتحول في رمضان إلى سبائك ذهبية، ولماذا يفعل التاجر نفس الشيء. لا تقل لي
إنّه العرض والطلب أو ثقافة الناس الاستهلاكيّة، كلّها مبرّرات تتحطّم مع دوافع
وغرائز انسانية سلوكيّة شابها الكثير من التغيّر.
خذ عندك أمر آخر : مع
الأيام الأولى للشهر الفضيل تلاحظ زوال أثر "أدوات التجميل" من وجوه بعض
الموظفات، واستبدال ملابس أكثر خصوصية
وحشمة، صحيح أنها كلها كم يوم ويعود كل شيء لما كان عليه، وتعود "ريمه
لعادتها القديمة"، ولكن لماذا يرتبط مقدم الشهر بسلوك كهذا؟ هل لأن الموظفة أو المرأة بشكل عام
تعتقد في داخلها أن استخدام هذه الأدوات غير جائز شرعاّ بحجّة أنّه يثير الفتنة
ويعد كنوع من التبرج المحرّم. في هذه الحالة عليها أن تمتنع عن استخدامها بقية أيام السنة وليس في رمضان فقط،
وإذا سلمنا بأن استخدامه جائز شرعاّ فلماذا
إزالته في الأيّام الأولى للشهر.
تعال للإعلام: تمتلئ برامج
وسائل الإعلام المحلية المرئية والمسموعة بالكثير من الفقرات الفنية المختلفة من
أغاني ومسلسلات وأفلام وغيرها، ولا تكاد تمر دقائق خمس إلا وكان الفاصل الغنائي
جاهزاّ ليشنّف آذان المستمعين الكرام وينقلهم إلى أجواء أخرى حالمة. وما إن يقترب
الشهر الفضيل إلا وتعلن هذه الوسائل عن حزمة من البرامج الدينية المتنوعة، فتكثر
الأناشيد والمحاضرات الدينية والابتهالات والتواشيح والمقاطع القرآنية السماعية،
والسؤال الذي يسأله طفل الخامسة : لماذا لا تبث الأغاني غالباّ في نهار رمضان، هل
لأنها محرّمة أو مكروهة أو غير جائزة؟ إذا كانت كذلك فلماذا تبثّ بقية أيّام
العام، وإذا كانت الإجابة عكس ذلك فلماذا ينقطع بثّها صباح رمضان. ولماذا تكثر
الابتهالات والتواشيح والأناشيد الآن؟ مرّة أخرى، هل يختلف الحساب في رمضان.
أيضاً من الأشياء التي لا
أجد لها تفسيراً ، هو ازدحام الشوارع بالسيارات قبل وقت قليل من موعد الإفطار،
والسرعة الجنونية لبعض هذه السيارات في سبيل الوصول إلى البيت، وعادي لدى بعضهم لو
صدم أحد المارّة أو تسبّب في كارثة مروري، المهم أنّه يوصل قبل الأذان. هل ستقوم
القيامة لو رجع قبل ساعة أو اثنتين مثلاً
من موعد الإفطار، وبعدين ما دام قد تحمل الجوع
والعطش طوال اليوم أفلا يستطيع تحمله لعدة دقائق لو قاد سيارته بهدوء ورجع متأخراً
بعض الشيء.
هذه بعض التناقضات التي
ابتلي بها هذا الشهر يا أستاذي، لم أشأ أن
أسترسل في المزيد منها لأنها مؤلمة وصادمة، كنت أتمنى أن يبقى رمضان شهر
القرآن والمغفرة، شهر الخير والتواصل والتراحم، ليس شهراً للتسوق ، ولا شهراً
لتغيير الأثاث والمباهاة الاجتماعية كما يفعل البعض، يحتاج
منا أن نعيد له بعضاً من قيمته ومكانته، أن نعيد نظرتنا إليه، أن نستلهم نظرة
سلفنا له، ونستحضر منجزاتهم فيه وقتها سيكون رمضان دواء للقلوب والأبدان، ستشفى قلوبنا من كثير من أمراضها المزمنة،
وستتعافى أبداننا من كثير من أمراضها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.