كانت أحداث المنصة ومن قبلها واقعة الحرس الجمهوري، وما بينهما من أحداث مختلفة بمثابة ورقة التوت الأخيرة التي عرّت جزءاً كبيراً من النخب المصرية بسياسييها واعلاميها ومثقفيها، ذلك أن تعاطيهم مع هذه الأحداث كان تعاطياً يتناقض والمبادئ التي صدّعونا بالحديث عنها والمطالبة بها، فطوال عام كامل وهذه النخبة تزعجنا بحديثها المتكرر عن انتهاكات في كثير من المجالات كحرية الإعلام والتعبير، والانتهاكات الذي يمارسها النظام السياسي القائم المتمثل في الإخوان المسلمين تجاه العاملين في هذا المجال علماً بأنّنا لم نسمع طوال ذلك العام عن أيّة انتهاكات واضحة مارستها السلطة في هذا المجال، إلا اذا اعتبرنا أن غلق قناة (الفراعين) المثيرة للجدل لبعض الوقت بسبب قضايا مالية يمكن أن يعدّ نوعاً من الانتهاك.
هذه النخبة أقامت الدنيا وأقعدتها بسبب اعتراضها على تعيين النائب العام السابق، ثم مارسوا سياسة التطنيش ولم نسمع لهم صوت الآن عندما عيّن الرئيس المؤقّت الحالي نائباً جديداً، وكأن المعايير ليست ذاتها.
تحدّثوا كثيراّ عن الرئيس الديكتاتور الذي جمع كافّة السلطات في يديه، وقيامه بإصدار الإعلانات الدستورية برغم علمهم بقيام المحكمة الدستورية بحلّ المجلس البرلماني المنتخب شرعيّاً، بينما يلحسون الآن كل تلك الأقوال وهم يرون الرئيس المؤقّت يقوم بالعمل ذاته الذي أخذوه على مرسي سابقاً.
تباكوا كثيراً على وضع الحرّيّات في مصر لمجرّد اعتقال عدد من مثيري الشغب والذين كانت النيابة تقوم بالإفراج عنهم في كل مرّة ربّما نكاية في الرئيس، وربّما كجزء من خطّة موضوعة لإحراجه واظهاره بمظهر الرئيس الضعيف المتردّد، بينما ترفع هذه النخبة الآن شعار ( لا أرى. لا أسمع. لا أتكلم) وهي ترى الآلاف التي تساق كل يوم إلى المعتقلات والسجون لحجج واهية لا تقبلها عقولهم هم، فما بالك بالمجتمع الخارجي، كأن يتّهم سياسي كبير بالنصب أو تأجير شقق أو غسيل أموال، بينما التهمة سياسية في الأصل، وجزء من خطّة إقصاء تستغل صمت البعض وتجاهلهم عمّا يحدث.
طالبوا بالثّورة ضدّ النظام السابق لأنه فشل في توفير المتطلّبات الأساسيّة كالأمن والكهرباء والطاقة، واتهموا وزراء الداخلية الذين عيّنهم مرسي بالدّمويّة، ثمّ بلعوا كل ما قالوه عندما أعيد تعيين وزراء الحقائب التي اتهموها بالفشل في الوزارة الجديدة، وعندما تم تعيين وزيري داخلية مرسي أحدهما مستشاراً للرئيس، والآخر وزيراً، وأغمضوا عيونهم عن تعيين وزراء فاشلين محسوبين على نظام مبارك كالدميري وزير النقل الذي حدثت في عهده واحدة من أكبر كوارث الطرق في مصر، وكأن شيئاَ لم يكن، وكأن ثورة لم تقم، على حد تعبير عمّنا البرادعي.
النخبة التي لم تترك دقيقة من برامجها الحوارية دون الحديث عن دمويّة مرسي والاخوان عندما قتل الحسيني أبو ضيف، وجيكا، والجندي، هي ذاتها وقفت صامتة عمّا حدث من أحداث في مجزرة المنصة والحرس الجمهوري، وعملت (ودن من طين وودن من عجين)، وطوال أيام وأنا أبحث عن أي تغطية لهذه الأحداث ولو كخبر بسيط في القنوات المصرية المختلفة، فلم أجد حرفاً يذكر عمّا حدث. فقط أغاني ومسلسلات وبرامج طبخ وكأنهم يريدون تعويض مشاهديهم عن الساعات التي أضاعوها في اليوم السابق للأحداث في نقل مظاهرات التفويض، حتى عندما انتقلت إلى صفحات التواصل الاجتماعي المختلفة كي أتابع ردود النخبة، كدت أتقيّأ ممّا وجدته من شماتة وفرح بمقتل هؤلاء، فهذا يقول "إيه اللي ودّاهم عند الشرطة"، والآخر يقول "دول شويّة خرفان يستاهلوا الدبح" ، والثالث يصبّ اللعنات على قناة الجزيرة لمجرّد أنها نقلت الحدث، وكأنّ من ماتوا لا يستحقون ولو مجرّد وداع صغير قبل انتقالهم لعالم الأموات.
ماذا لو كان ربع ما يحدث الآن من أحداث وقع زمن مرسي؟ ستجد التنديد والشجب، وستظهر البطولات العنترية الوهمية، فهذا سيترك مقعده في مجلس الشورى احتجاجاً، وتلك ستلقي بميكرفون التلفزيون أو الاذاعة التي تعمل بها استنكاراً، وذاك سيقدم استقالته من وظيفته الرسميّة الكبيرة تضامناً، ورابع سيكتب (تويتّة) عنيفة يذكّرنا فيها بحقوق الانسان وأهمية احترام صنف البشر.
برأيي أن ما يحدث في مصر الآن ليس خلافاً سياسياً، ولا علاقة له من قريب أو بعيد بمبادئ الديمقراطية، حتى ولو سلمت بأن هناك كثير من البسطاء الذين خرجوا رغبة في تحسين الأوضاع، إلّا أنه على مستوى النخبة يعدّ محاولة انتقام واضحة تلقى فيها المبادئ بعرض الحائط متذرعة بذرائع واهية، وكلّ همّها الإطاحة بفصيل سياسي له تواجد حقيقي في الشارع عجزت عنه كثير من الفصائل السّياسيّة الأخرى.
المشهد المصري الآن هو نسخة طبق الأصل من مثيله في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، زوّار آخر الليل، واعتقالات بتهم وهميّة، في ظل إعلام أحادي يقدّس وليّ الأمر ويسعى لنيل رضاه ويخشى انتقاده، ونخبة من السياسيين والمثقفين الذين يدورون في فلكه إمّا خوفاً أو تصفية لحسابات مع طرف آخر أو رغبة في نيل حظوة يعلمون أنهم لن يستطيعون الحصول عليها بالوسائل الديمقراطية المتعارف عليها.
ليست القضيّة قضيّة إخوان أو ليبرالية أو يسار أو قومية أو ماركسية أو غيرها، ولكنّها قضية مبدأ وانسانية، فالمعايير لا تتجزأ، ولا يمكن أن نفصّلها كما نشاء لمجرد أهواء فكرية شخصية، وما دمت تنشد العدل والحرية والإنسانية والعدالة الاجتماعية فعليك أن تنشدها للنهاية، لا أن تطوّعها شعاراّ لأغراض سياسية لديك ثم تلقي بها في أقرب مقلب قمامة عند انتفاء حاجتك إليها، أو عندما تتعارض مع مبادئك وتوجّهاتك.
لست منحازا لطرف دون الآخر ولي عشرات الملاحظات على الطرفين، ويؤسفني ما يحدث بمصر، ولكني أتألّم عندما أرى طرحاً أحادياً دون اعتبار لمجريات الأمور الحقيقية، فقط أنا ضد احتكار طرف بعينه للحقيقة سواء كانوا إخواناّ أم غيرهم، أنا ضد التحيز لفكر وإقصاء الاخر لمجرد الاختلاف معهم، اختلافي مع الاخوان لا يعني أن أنادي بقتلهم وسحلهم، وكما ننتقد جماعات الإسلام السياسي لبعض تصرفاتهم فعلينا أن ننتقد الطرف الآخر عندما يخطئ كذلك، عندما ننتقد إعلام الإسلام السياسي فعلينا أن نمارس نفس الامر عندما يمارس الطرف الآخر نفس الشيء، عندما نقول أن هذه الجماعات مارست العنف فعلينا أن نستنكر العنف الآخر عندما يمارسه الطرف الآخر بالضبط.
علينا أن نكون محايدين وأن ننحي توجهاتنا وميولنا السياسية وأن نستنكر ما نراه ضد مبادئنا، لا أن نغمض أعيننا عن نصف الصورة ولا نستحضر سوى ما هو مرسوم في اذهاننا فقط.
هذه النخبة أقامت الدنيا وأقعدتها بسبب اعتراضها على تعيين النائب العام السابق، ثم مارسوا سياسة التطنيش ولم نسمع لهم صوت الآن عندما عيّن الرئيس المؤقّت الحالي نائباً جديداً، وكأن المعايير ليست ذاتها.
تحدّثوا كثيراّ عن الرئيس الديكتاتور الذي جمع كافّة السلطات في يديه، وقيامه بإصدار الإعلانات الدستورية برغم علمهم بقيام المحكمة الدستورية بحلّ المجلس البرلماني المنتخب شرعيّاً، بينما يلحسون الآن كل تلك الأقوال وهم يرون الرئيس المؤقّت يقوم بالعمل ذاته الذي أخذوه على مرسي سابقاً.
تباكوا كثيراً على وضع الحرّيّات في مصر لمجرّد اعتقال عدد من مثيري الشغب والذين كانت النيابة تقوم بالإفراج عنهم في كل مرّة ربّما نكاية في الرئيس، وربّما كجزء من خطّة موضوعة لإحراجه واظهاره بمظهر الرئيس الضعيف المتردّد، بينما ترفع هذه النخبة الآن شعار ( لا أرى. لا أسمع. لا أتكلم) وهي ترى الآلاف التي تساق كل يوم إلى المعتقلات والسجون لحجج واهية لا تقبلها عقولهم هم، فما بالك بالمجتمع الخارجي، كأن يتّهم سياسي كبير بالنصب أو تأجير شقق أو غسيل أموال، بينما التهمة سياسية في الأصل، وجزء من خطّة إقصاء تستغل صمت البعض وتجاهلهم عمّا يحدث.
طالبوا بالثّورة ضدّ النظام السابق لأنه فشل في توفير المتطلّبات الأساسيّة كالأمن والكهرباء والطاقة، واتهموا وزراء الداخلية الذين عيّنهم مرسي بالدّمويّة، ثمّ بلعوا كل ما قالوه عندما أعيد تعيين وزراء الحقائب التي اتهموها بالفشل في الوزارة الجديدة، وعندما تم تعيين وزيري داخلية مرسي أحدهما مستشاراً للرئيس، والآخر وزيراً، وأغمضوا عيونهم عن تعيين وزراء فاشلين محسوبين على نظام مبارك كالدميري وزير النقل الذي حدثت في عهده واحدة من أكبر كوارث الطرق في مصر، وكأن شيئاَ لم يكن، وكأن ثورة لم تقم، على حد تعبير عمّنا البرادعي.
النخبة التي لم تترك دقيقة من برامجها الحوارية دون الحديث عن دمويّة مرسي والاخوان عندما قتل الحسيني أبو ضيف، وجيكا، والجندي، هي ذاتها وقفت صامتة عمّا حدث من أحداث في مجزرة المنصة والحرس الجمهوري، وعملت (ودن من طين وودن من عجين)، وطوال أيام وأنا أبحث عن أي تغطية لهذه الأحداث ولو كخبر بسيط في القنوات المصرية المختلفة، فلم أجد حرفاً يذكر عمّا حدث. فقط أغاني ومسلسلات وبرامج طبخ وكأنهم يريدون تعويض مشاهديهم عن الساعات التي أضاعوها في اليوم السابق للأحداث في نقل مظاهرات التفويض، حتى عندما انتقلت إلى صفحات التواصل الاجتماعي المختلفة كي أتابع ردود النخبة، كدت أتقيّأ ممّا وجدته من شماتة وفرح بمقتل هؤلاء، فهذا يقول "إيه اللي ودّاهم عند الشرطة"، والآخر يقول "دول شويّة خرفان يستاهلوا الدبح" ، والثالث يصبّ اللعنات على قناة الجزيرة لمجرّد أنها نقلت الحدث، وكأنّ من ماتوا لا يستحقون ولو مجرّد وداع صغير قبل انتقالهم لعالم الأموات.
ماذا لو كان ربع ما يحدث الآن من أحداث وقع زمن مرسي؟ ستجد التنديد والشجب، وستظهر البطولات العنترية الوهمية، فهذا سيترك مقعده في مجلس الشورى احتجاجاً، وتلك ستلقي بميكرفون التلفزيون أو الاذاعة التي تعمل بها استنكاراً، وذاك سيقدم استقالته من وظيفته الرسميّة الكبيرة تضامناً، ورابع سيكتب (تويتّة) عنيفة يذكّرنا فيها بحقوق الانسان وأهمية احترام صنف البشر.
برأيي أن ما يحدث في مصر الآن ليس خلافاً سياسياً، ولا علاقة له من قريب أو بعيد بمبادئ الديمقراطية، حتى ولو سلمت بأن هناك كثير من البسطاء الذين خرجوا رغبة في تحسين الأوضاع، إلّا أنه على مستوى النخبة يعدّ محاولة انتقام واضحة تلقى فيها المبادئ بعرض الحائط متذرعة بذرائع واهية، وكلّ همّها الإطاحة بفصيل سياسي له تواجد حقيقي في الشارع عجزت عنه كثير من الفصائل السّياسيّة الأخرى.
المشهد المصري الآن هو نسخة طبق الأصل من مثيله في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، زوّار آخر الليل، واعتقالات بتهم وهميّة، في ظل إعلام أحادي يقدّس وليّ الأمر ويسعى لنيل رضاه ويخشى انتقاده، ونخبة من السياسيين والمثقفين الذين يدورون في فلكه إمّا خوفاً أو تصفية لحسابات مع طرف آخر أو رغبة في نيل حظوة يعلمون أنهم لن يستطيعون الحصول عليها بالوسائل الديمقراطية المتعارف عليها.
ليست القضيّة قضيّة إخوان أو ليبرالية أو يسار أو قومية أو ماركسية أو غيرها، ولكنّها قضية مبدأ وانسانية، فالمعايير لا تتجزأ، ولا يمكن أن نفصّلها كما نشاء لمجرد أهواء فكرية شخصية، وما دمت تنشد العدل والحرية والإنسانية والعدالة الاجتماعية فعليك أن تنشدها للنهاية، لا أن تطوّعها شعاراّ لأغراض سياسية لديك ثم تلقي بها في أقرب مقلب قمامة عند انتفاء حاجتك إليها، أو عندما تتعارض مع مبادئك وتوجّهاتك.
لست منحازا لطرف دون الآخر ولي عشرات الملاحظات على الطرفين، ويؤسفني ما يحدث بمصر، ولكني أتألّم عندما أرى طرحاً أحادياً دون اعتبار لمجريات الأمور الحقيقية، فقط أنا ضد احتكار طرف بعينه للحقيقة سواء كانوا إخواناّ أم غيرهم، أنا ضد التحيز لفكر وإقصاء الاخر لمجرد الاختلاف معهم، اختلافي مع الاخوان لا يعني أن أنادي بقتلهم وسحلهم، وكما ننتقد جماعات الإسلام السياسي لبعض تصرفاتهم فعلينا أن ننتقد الطرف الآخر عندما يخطئ كذلك، عندما ننتقد إعلام الإسلام السياسي فعلينا أن نمارس نفس الامر عندما يمارس الطرف الآخر نفس الشيء، عندما نقول أن هذه الجماعات مارست العنف فعلينا أن نستنكر العنف الآخر عندما يمارسه الطرف الآخر بالضبط.
علينا أن نكون محايدين وأن ننحي توجهاتنا وميولنا السياسية وأن نستنكر ما نراه ضد مبادئنا، لا أن نغمض أعيننا عن نصف الصورة ولا نستحضر سوى ما هو مرسوم في اذهاننا فقط.