الأربعاء، 18 أبريل 2012

الاحساس نعمة


قرأت هذه العبارة لأول مرة في القاهرة قبل بضعة سنوات. كان صاحبها قد كتبها على مدخل موقف سيارته في ذلك الشارع الحيوي المزدحم الذي يسكن فيه. ويبدو أن صاحب العبارة قد يئس من تصرفات البعض من الوقوف المتكرر في مدخل (الكراج)، فلم يجد سوى هذه العبارة لكتابتها بخط واضح عل من يقرأها يشعر بشيء من الخجل أو تأنيب الضمير، ويعدل عن إزعاج صاحب الموقف.

 من يومها وأنا أتذكر هذه العبارة في عديد من المواقف المجتمعية الخاطئة التي أراها تحدث أمامي بين حين وآخر، والتي لا تمس شريحة بعينها، والتي قد يمارسها البعض بشيء من العفوية أحياناً، ومن التعمد أحياناً أخرى، وهو أمر يجعلنا نفكر كثيراً في جدوى مصطلحات كالثقافة القانونية، وتربية المواطنة، ومبدأ المساءلة والمحاسبة وغيرها. 

    أتذكر هذه العبارة عندما أكون جالساً في سلام أتناول طعامي في أحد المطاعم، أو أقضي حوائجي في محل ما، وفجأة يطلق أحدهم بوق سيارته بشكل هيستيري يصيبني بالصمم المؤقت، ويجعلني أكره المكان وقد أضطر لتركه،  وكأنه لا يوجد في المكان بشر غيره يحق لهم قضاء حوائجهم أو الاستمتاع بأوقاتهم في هدوء. 
ماذا سيحدث لو أوقف هذا الشخص سيارته ونزل ليأخذ الغرض الذي يريده؟هل سيقلل ذلك من مكانته وقيمته كإنسان؟

أتذكرها كذلك عندما أخرج من بيتي مهموماً أتذكر قسط البيت الذي يقتطع نسبة لا بأس بها من الراتب، وقسط السيارة الذي حان وقت سداده، وفواتير الكهرباء والماء المتراكمة. وفي زحمة همومي وأفكاري أطالع من شباك السيارة فتلوح أمامي لوحة إعلانية ضخمة قد كتب عليها إعلان مستفز من قبيل " ادخل السحب الكبير وقد تربح نصف مليون ريال"، فأقفل النافذة وأدير مؤشر المذياع لأستمع إلى إعلان آخر أكثر ثقلاً وسماجة " معنا فقط ستتمكن من تحقيق كل أحلامك وقد تكون الرابح للجائزة الكبرى وقيمتها مليون ريال"،فلا أجد أمامي سوى لوم الحكومة التي جعلتنا نضطر إلى اللجوء للاقتراض من هذه الجهات التي تسخر منا إلى هذا الحد الذي يتم فيه الاستفادة من الفوائد (المركبة) المترتبة على قروضنا في جوائز بهذا الشكل المستفز.

أتذكرها عندما أرى بعض العمال الوافدين وهم يعملون في عز الظهيرة، وفي ظل درجات حرارة مرتفعة لا تسمح للإنسان العادي بالسير لبضعة دقائق فما بالك بمن يعمل في ظلها لعدة ساعات .
ترى هل هو جشع بعض المقاولين وأصحاب الأعمال، أم عدم وعيهم بثقافة حقوق الإنسان، أم ضعف الرقابة العمالية من قبل الجهات المختصة، أم أن هؤلاء العمال ليسوا أساساً من صنف البشر؟

   أتذكرها أيضاً عندما أقود سيارتي في شارع جانبي وفجأة أشعر بصاروخ يمرق من جواري بسرعة البرق، ضارباً عرض الحائط بقواعد المرور، والسرعة المقررة، والسيارة القادمة من الاتجاه الآخر، ثم يقف بكل برود أمام أحد المطاعم المحاذية للشارع وكأن شيئاً لم يكن.
  وأتذكرها عندما يحدث عكس الموقف السابق بحيث تقود سيارتك في أحد الشوارع الرئيسية السريعة، وتفاجأ بصاحب السيارة التي أمامك وهو يقودها بسرعة السلحفاة، ممسكاً بهاتفه المحمول، وابتسامته تملأ وجهه، وكأن الشارع من أملاك العائلة.

    أتذكر هذه العبارة عندما أكون نائماً في أمان الله بعد يوم عمل مرهق، أو في جو رمضاني روحاني، فأستيقظ منزعجاً على أصوات نشاز لعدد من الدراجات النارية المهجنة التي اعتقد بعض الفتية أن اللهو بها في الحارات السكنية، وفي أوقات الراحة لساكني هذه الحارات، هو أمر اعتيادي لمجرد أنهم لم يجدوا من يقول لهم إن ما يقومون به يتنافى مع المبدأ القائل" إن حرية الفرد تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين".

أتذكرها أيضاً عندما أرى مجموعة من الشباب منكوشي الشعر، يلبسون ملابس غربية لا علاقة لها بالبلد وعاداتها وجوها، ولا مانع من وجود بعض السلاسل أو الأساور في معصم اليد، وهم يرقصون على أنغام موسيقى غربية صاخبة لا يكادون يفقهون شيئاً من كلماتها، تنبعث من  سيارة رياضية شوهت الرسوم والعبارات معالمها.

أتذكرها عندما تتناول الطعام برفقة عائلتك في أحد مطاعم الوجبات السريعة، فيصر أحدهم على أن يتخذ مكاناً مقابلاً لكم كي يتناول طعامه برغم وجود أماكن أخرى، ونفس الأمر يتكرر عند زيارة عائلية نادرة لأحد الشواطئ أو الأماكن السياحية، فتفاجأ بمن يحاول (التنكيد) عليكم من خلال ممارسة (الغلاسة) و(اللماظة)، وهي مصطلحات مصرية تعني ثقل الدم، من خلال الاقتراب من مكان جلوس عائلتك، أو لبس ملابس غير لائقة، أو استعراض بعض المواهب التي تعبر في نهاية المطاف عن مشكلة أخلاقية لديه بحاجة إلى وقفة جادة من قبل أطراف عدة.

     أتذكرها عندما أرى مجموعة من الفتيات يدخلن مجمعاً تجارياً معيناً وهن في كامل زينتهن وبهرجتهن، تغطي روائح عطورهن المكان بأسره، وتسمع صدى ضحكاتهن من أقصى ركن بالمكان، وتعبث أياديهن بأحدث موديلات الهواتف النقالة، ثم يغضب الأخ الذي يرافقهن بشدة لأن هناك من تجرأ وحاول معاكسة إحداهن.

   أتذكرها عندما يحل الدمار بشعب أعزل كالشعب السوري، لا تكل قيادته عن التنكيل به يومياً لمجرد الحفاظ على كرسي السلطة، ثم تجد من يدافع عن هذا النظام على طول الخط، ويجد له المبررات المختلفة لمجرد تشابه المصالح والأفكار السياسية أو العرقية أو المذهبية، ودون الالتفات إلى ما تعنيه مصطلحات كالإنسانية، وقدسية الحياة، وبراءة الطفولة، والتعايش السلمي، وغيرها من المصطلحات التي غابت في ظل شريعة أقرب إلى شريعة الغاب أحياناً.

وأخيراً وليس آخراً أتذكرها عندما تكتب رأياً معيناً لا يعجب بعضهم ، فيعمد إلى الدخول على بريدك الالكتروني باسم مستعار، ويظل يكيل إليك بعبارات السباب واحدة تلو الأخرى، ولا بأس ببعض الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة، وكل ذلك كي يقول لك إنك مخطئ في طرحك.
ترى هل ستقوم القيامة لو حاورك بشكل حضاري جميل وفنــد لك بعض النقاط التي طرحتها والتي يراها – من وجهة نظره – خاطئة؟
فعلاً..الإحساس نعمة.


د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.