لا أدري لم تذكرت هذا الشعار وأنا أتابع المشهد السياسي
المصري الحالي، وأرى الضجة الكبيرة التي يحدثها عدد من رموز التيارات والأحزاب
الليبرالية واليسارية ومن يطلقون على أنفسهم (أنصار الدولة المدنية).
سبب هذه الضجة الكبيرة، والتي تفرغت كثير من القنوات
الفضائية المصرية لعرضها من خلال برامجها الحوارية المختلفة هو سيطرة حزب الحرية
والعدالة ( الذراع السياسي لجماعة الإخوان
المسلمين ) على تأسيسية لجنة الدستور وفرض عدد من الأسماء المنتمية إليهم أو
المتعاطفة معهم، وذلك بالتحالف مع حزب النور السلفي، وبعدها مباشرة قرار الجماعة الدفع
بمرشح لانتخابات الرئاسة المصرية بالرغم من تأكيداتهم السابقة بعدم المشاركة بممثل
لهم في هذه الانتخابات.
من الناحية القانونية لا توجد أية مشكلة فيما قام به
الإخوان، فهم لم يزوروا الانتخابات، ولا يمتلكون أجهزة أمنية تضمن لهم ذلك، ولا
يحق للتيارات الأخرى أن تفرض عليهم ما ينبغي أن يقوموا به لمجرد وعود سابقة، كما
أن نتائج الانتخابات أو الاستفتاء هي بيد الشعب لا الإخوان، وما حققوه من مكاسب
سياسية حالية هي نتاج عمل أكثر من 80 عاماً في العمل المنظم منذ نشأة الجماعة على
يد حسن البنا عام 1928م، وكانوا بمثابة حكومة الظل في عهد النظام السابق، وذلك من
خلال الخدمات المختلفة التي كانوا يقدمونها إلى قطاع كبير من الشعب المصري، والذين
رأوا فيهم بديلاً عن الحكومة الموجودة، وبالتالي لم يكن غريباً أن يعطونهم ثقتهم
وأصواتهم ، فكسبوا معركة الاستفتاء على الدستور بنسبة تجاوزت 77%، ثم سيطروا مع
الأحزاب الإسلامية الأخرى على حوالي 75% من مقاعد مجلس الشعب، وتبعوها بسيطرتهم
على مقاعد مجلس الشورى، وكان طبيعياً على يسيطروا على تشكيل اللجنة التأسيسية
للدستور في ظل المادة (60) من الإعلان الدستوري الذي ينظم عملها وآلية اختيارها.
وفي نفس
الوقت تفرغ الليبراليون للكلام كعادتهم طوال فترة النظام السابق دون أية ملامسة
حقيقية للواقع الشعبي، ورضوا بما فرضه عليهم الواقع السياسي السابق، فكانت جل
اهتماماتهم الصراع على رئاسة بعض الأحزاب الورقية، أو الظهور المتكرر في المنابر
الإعلامية التي سمح بها النظام للفضفضة وتنفيس بعض الكبت، أو الترصد لممارسات
الإخوان المختلفة، لذا لم يكن غريباً ألا تحظى هذه التيارات والأحزاب بتأييد شعبي
حقيقي وملموس برغم أقدمية بعضها، ولمعان أسماء عدد من رموزها.
برأيي إن ما
يفعله عدد كبير من ممثلي التيار الليبرالي واليساري هذه الأيام دليل على إفلاس
سياسي واضح، فقد أصبحت تصريحاتهم تتوالى وكأنهم تحت تأثير صدمة كبيرة، بحيث أصبحنا
نستمع إلى أحدهم وهو يناشد المجلس العسكري بأن يفرض (الدولة المدنية) بالقوة، وهو
الذي كان ينتقد ديكتاتورية المجلس العسكري طوال الفترة السابقة، بينما كان منظر
الدكتور رفعت السعيد رئيس حزب التجمع اليساري
مضحكاً وهو يصرح لأحد البرامج منفعلاً وكأنه أحرز نصراً كبيراً "جالكم
كلامي؟ مش قلت لكم؟ أنا قلت كده من الأول إنهم حيرشحوا حد بس مكنتوش
تصدقوني"، وهو تصريح لا يمكن لأصغر رئيس حزب في أوروبا أو أمريكا مثلاً أن
يصرح به، فما بالكم برجل أمضى أكثر من 50 عاماً في العمل السياسي.
على التيارات الليبرالية واليسارية أن تنشغل بالعمل السياسي الجاد بدلاً من
التباكي طوال الوقت، فسياسة الصوت العالي قد لا تفيد في كل الأوقات، فإذا ما
أرادوا أن يكون لهم تأثيراً جاداً وملموساً بين أوساط المجتمع، فعليهم أولاً أن
يشعروا الشعب المصري بوجودهم، وذلك من خلال التفرغ للعمل الجماهيري الحقيقي، والاقتراب
من المشاكل الحقيقية للمجتمع، وتقديم حلول جذرية لهذه المشاكل والتحديات، بدلاً من
سياسة التنظير والتأطير من الأبراج العالية التي يمارسها الكثير منهم حالياً.
عليهم كذلك التوحد في كتل قوية ومتماسكة وتقريب أوجه الاختلاف فيما بينهم، فلا
يعقل أن تكون هناك عشرات الأحزاب التي تتبنى الفكر الناصري، ومثلها من يتبنى الفكر
اليساري، وأخرى تتبنى الفكر الليبرالي الوسطي، وكل حزب من هذه الأحزاب قد لا
يتجاوز عدد المنتسبين إليه مركزاً من مراكز جماعة الإخوان المنتشرة في قرى مصر
وكفرها ونجوعها، والأغرب أن الأعضاء المؤسسين لتلك الأحزاب هم أنفسهم الذين كانوا من
مؤسسي الأحزاب الأخرى.
عليهم كذلك أن يدركوا أن سياسة الانسحاب سواء من المجالس البرلمانية أو من
تأسيسية الدستور أو غيرها، والتفرغ للتصريحات الإعلامية وتوزيع التهم ضد الإخوان
هي دليل على ضعف وقلة حيلة، ولن تجلب لهم الرضا الشعبي أو تثنيه عن دعم التيارات
الإسلامية بشكل عام، لذا فإن استمرارهم ومحاولة فرض وجودهم وإثبات جدارتهم، وتصحيح
المسار السابق، والوقوف بقوة لأي محاولات من قبل الطرف الآخر لتمرير سياسته هي
الحل المناسب الذي قد يجعل المجتمع يشعر بوجودهم، وبالتالي قد يتبنى بعض أفكارهم
مستقبلاً ويساندهم، ويكسبهم الشرعية والتأثير المطلوب.
أما مقولة إن التيارات
الإسلامية تستغل طيبة وتدين الشعب المصري، فهي مقولة ترمز إلى إهانة هذا الشعب
العظيم ووصفه بالسلبية، فالشعب المصري هو الذي خرج مع سعد زغلول في مظاهرات 1919،
وهو الذي قام بأول مظاهرة مليونية في ميدان الإسماعيلية(التحرير حالياً) عام 1951،
احتجاجاً على استفزازات المستعمر الانجليزي، وهو الذي ساند عبد الناصر في معركته
لتأميم القناة، وهو الذي خرج في مظاهرات الخبز في يناير 1977، وأخيراً وليس آخراً
هو الذي صنع ثورة 25 يناير العظيمة، لذا فإن التلميح بوصفه بالسذاجة والطيبة
الزائدة واستسلامه لتأثير المد الإسلامي ما هي إلا محاولات للتقليل من قيمة هذا الشعب، والبحث عن مبررات
تعبر عن ضعف وقلة حيلة من قبل تلك التيارات.
لا أقول هذا الكلام انحيازاً للإخوان، أو إعجاباً بما
يفعلونه الآن،فهم برغم كلامهم المستمر عن قدرتهم على حل كافة المشاكل المتعلقة
بالدولة، إلا إنه ليس لديهم حتى الآن دستوراً جاهزاً، ولم يسنوا تشريعاً واحداً
بالرغم من سيطرتهم على نسبة كبيرة من مقاعد مجلسي الشعب والشورى، وكثيراً من
العيوب المستورة ستنكشف تباعاً، فالعمل الدعوي والاجتماعي يختلف بلا شك عن العمل
السياسي المكشوف، وسياسة (المغالبة) التي يتبناها الإخوان حالياً قد تؤدي إلى مزيد
من الانشقاقات وفقدان الرصيد الشعبي، وهناك ملفات كثيرة بحاجة إلى تسليط ضوء بشكل
أكبر تتعلق بموضوعات تتناول قانونية الجماعة، والعلاقة بين الجماعة والحزب، ومدى
تأثير المرشد في حالة فوز المرشح الاخواني بكرسي الرئاسة ، ومصير تحالفهم (الهش) المؤقت
مع التيارات الإسلامية الأخرى برغم تباعد الرؤى واختلاف الأفكار المستقبلية،
وظاهرة (الاستعلاء) الذي يمارسها البعض من رموزهم والتي أصبحت محل تندر وفكاهة من
قبل شريحة من المجتمع، ومدى قدرة الجماعة على المحافظة على تماسكها والذي كان
يضمنه لها سابقاً شعور أفرادها بالظلم والتمييز من قبل النظام الحاكم، وملفات أخرى
كثيرة سيكشف مصيرها قريباً في خضم الأحداث المتلاحقة.
د.محمد بن
حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.