التقيت به لأوّل مرّة عندما
انتقلت إلى العمل بالهيئة العامّة لحماية المستهلك قبل ثلاث سنوات من الآن. كنت لا
أعرفه من قبل برغم حديث الكثير من الأصدقاء عنه عندما علموا بأمر انتقالي، ورغم
شهرته وقتها كونه كان مذيعاً لامعاً بإذاعة (الوصال)، وأحد مؤسّسي منتداها
الشّهير، وصاحب الحلقات السّاخنة التي تزامنت مع الأحداث التي شهدتها السّاحة
المحلّيّة في تلك الفترة، والتي كانت تتناول قضايا مهمّة تتعلّق بالرّأي العام
المحلّي.
ولا زلت حتّى اليوم أتذكّر
تفاصيل اللّقاء الأوّل بالإنسان خالد الراشدي في مكتبه الذي سيصبح فيما بعد أحد
أكثر الأماكن التي أقضي فيها وقتي اليوميّ، ومقرّاً لندوة صباحيّة يوميّة نناقش
فيها مستجدّات السّاحة المحلّيّة، ومطبخاً لكثير من الأفكار التي تتحوّل مباشرة
إلى مقالات أسبوعيّة أزعم أنّ كثيراً منها يحمل بصمته وفكره. أذكر أنّه يومها حدّثني
عن مصطلحات جديدة ربّما كنت أسمعها لأوّل مرّة، أو قد مرّت عليّ هنا وهناك دون
التفاتة حقيقيّة لمعناها. حدّثني عن ترحيبه بي كإضافة حقيقيّة بحسب رأيه، وعن
سعادته كوني سأصبح جزءاً من فريق العمل بالدّائرة، وعن تشوّقه للأفكار التي
سأطرحها لتجويد العمل، وعن رؤية الدائرة القائمة على الابتعاد عن التقليديّة،
والبحث عن الأفكار غير المألوفة!
كنت أريد أن أصرخ في وجهه لولا أن منعني من ذلك
بشاشته وحسن استقباله: إضافة! فريق عمل! أفكار غير مألوفه! هل أنت جادّ يا صديقي!
ما أعرفه أنّ مصطلحات كهذه مكانها المجلات والبحوث وأوراق العمل التي نملأ بها
أرفف مكاتبنا لا الميدان ذاته. أتمنّى ألا تكون مجرّد أطقم جمل تردّدها ككثير من
المسئولين لدينا!
وخلال عشرة العمر التي
ابتدأت منذ أوّل لحظة تعارف بيننا وكأنّنا نعرف بعضنا منذ لحظة الميلاد ، والتي
وطّدتها النّقاشات الصباحيّة اليوميّة، وأسفار العمل، ولقاءات الغداء أو العشاء أو
الافطار الرمضاني التي نقيمها كل حين وآخر بصحبة بقيّة الزّملاء في الدائرة، فإنّ
أكثر ما شدّني فيه هو ابتسامته الدائمة وعدم تذمّره، وانسانيّته المفرطة إلى حدّ
اللامعقول، فلم يحدث أن دخلت عليه يوماً لأجده عابساً أو مكتئباً أو متذمّراً برغم
الأعباء الملقاة على عاتقه والتي ينوء عن حملها فريق كامل من المديرين، وكثيراً ما
كنت أدخل مكتبه متضايقاً أو متذمّراً من زحمة طريق، أو موضوع حياتيّ معيّن، أو من
(غلاسة) أحد الآسيويّين في بنك أو شارع أو محلّ، فينظر لي بابتسامة وهو يقول لي:
أعرف أنّ هناك ما يضايقك. هيا فلتفضفض لي، هل ضايقك أحد (حبايبك) في الطّريق
كعادتهم معك كلّ يوم، أم أنّ هناك شيئاً آخر استجدّ! وكنت أجد راحة تامّة وأنا
أفضفض له، بينما يأتي تعليقه جادّاً أو ضاحكاً بحسب الموقف الذي أسرده. ليجرّنا
الحديث بعد ذلك إلى مناقشة حدث مستجدّ، أو قضيّة ما قبل أن تنفضّ جلستنا وينشغل
كلّ منّا بعمله.
وكان في أحلك لحظات العمل
ارهاقاً وانشغالاً مستعداً لاستقبالك بنفس لياقته الفكريّة الصباحيّة، فكثيراً ما
يحدث أن أقطع عليه اجتماعاً مصغّراً مع بعض زملاء العمل، أو اتّصال عمل يجريه كي يسعفني
ببهارات كلامه التي أرشّها على سطور مقالي الأسبوعيّ فتجعله مقبولاً في نظري، أو
أن أطلب منه عنواناً لأحدها فيبتسم ثم يطالع السّقف ليقترح عليّ أحدها، وقبل أن
يكمل عنوانه أكون أنا قد وصلت مكتبي لأكتبه قبل أن أنساه، وكان قارئي الأوّل الذي
كنت أستمتع بمراقبة حركة شفاهه وهو يقرأ المقال للآخر قبل أن يعطيني رأيه أو
انطباعه الذي غالباً ما يأخذ طابع التّحفيز كعادته مع بقيّة الزّملاء.
أمّا إنسانيّته فقد كانت
شيئاً آخر مختلفاً تماماً، فقد كان إنساناً إلى درجة الثّمالة بل تزيد، يحدث أن
يدخل عليه زميل (أو زميلة) عمل ليقدّم له مقترحاً أو مشروعاً ما، فيبتسم وهو يقول
بصوت محبّب: الله.. رائع.. جميل، وكان هذا كاف كي يشعر ذلك الزّميل بالنّشوة
والحيويّة والأهمّيّة فينطلق نحو بذل المزيد. كما كان بحكم علاقاته وعمله السابق
يعرف الكثير من المسئولين في القطاعين الحكوميّ والخاص، وكانت علاقته ببعضهم
مباشرة، وبرغم أنّه كان يأنف أن يستغل تلك العلاقات يوماً لمصلحته الشّخصيّة، إلا
أنّه كان مستعدّاً للوقوف على أبوابهم إذا ما قصده زميل أو محتاج في خدمة. أذكر
أنّه عندما تعرّض طفلي الصّغير لوعكة صحيّة استدعت بقاؤه في أحد المستشفيات الخاصّة
لم يترك أحداً من أطبّاء الأطفال في السّلطنة دون أن يحدّثهم عن حالته برغم أنني
لم أطلب منه ذلك، وبرغم أنّني شخصيّاً لم أهتم بابني كما اهتمّ هو به، وأذكر كذلك
أنّني حدّثته عن رغبة بعض من أعرفهم في بناء مجلس عامّ يخدم قريتهم فإذا به يطلب
منّي الأوراق المتعلّقة بالمجلس كي يقدّمها لبعض من يعرفهم من أصحاب الأيادي
البيضاء، كما كان مستعدّاً للتبرّع بآخر ريال في جيبه من أجل إقامة حفلة تكريم
لموظّف مجيد، أو للتبرّع لشخص مريض حتّى ولو لم يكن يعرفه، أو لتقديمها إلى عمّال
النّظافة الملحقين بالدّائرة، عدا مساهمته في كثير من الأعمال التطوّعيّة
المجتمعيّة التي تنفّذها بعض المؤسّسات والفرق، وقس على ذلك مواقف انسانيّة كثيرة
لا يتّسع المجال لسردها.
وكأنّ اللحظات الجميلة تأبى
أن تستمر لنفاجأ ذات صباح بإصابة والده بالفشل الكلويّ الأمر الذي يستدعي معه سفره
للعلاج لاستبدال الكليتين أو احداهما، فإذا بخالد يبذل المستحيل من أجل والده. لم
يرض أن يبحث عن متبرّع بكليته مقابل مبلغ من المال كما يفعل الكثيرين فهو ليس على
استعداد للمغامرة بفشل العمليّة ولو بنسبة 1%، ولم يرض كذلك أن يتحمّل والده ألم
الغسيل الكلويّ، ولا مواعيد الجلسات والمراجعات، بل أصرّ على أن يتبرّع هو بنفسه
مهما كلّفه الأمر، وحتّى لو كانت حياته هي المقابل، وكم كانت فرحته غامرة عندما
أخبره الأطبّاء بقدرته على التبرّع. كنت أرى دموع الفرح في عينيه وكأنّ الأمر
يتعلّق بالحصول على منصب ما لا التخلّي عن جزء مهمّ من جسده!!
مازلت أتذكّر آخر عبارة
قالها لي قبل سفره " الحياة لا تساوي كلّ هذا التّعب والجري خلفها. لا تعتقد
أنّني خائف أو متوتّر من العمليّة، على العكس فأنا سعيد لأنّي سأقوم بأجمل شي قد
أقوم به في حياتي، ألا وهو أن أردّ شيئاً بسيطاً من تعب والدي وتضحياته تجاهي
وإخوتي. إنّ والدي لا يعرف حتّى هذه اللّحظة أنّني من سيتبرّع له بكليته، ولن
أخبره مستقبلاً، فهذا ليس بالأمر الذي يدعو إلى المنّة أو التّفاخر، بل هو أدنى
درجات الواجب، إنّني أنتظر هذه اللحظة اليوم قبل الغد، فما أجمل أن يكون مصيرك
مرتبطاً بحياة والديك ".
يا لإنسانيّتك أيّها
الخالد!! سيلطف بك ربّي وسيكافئك على قدر نيّتك وانسانيّتك وبرّك بوالديك، وستشفع
لك دعوات الكثيرين ممّن وقفت معهم دون انتظار لمقابل. فقط أنتظر عودتك يا صديقي كي
أراك كما تعوّدت عليك، بابتسامتك العذبة الصّادقة، و(قفشاتك) ومداعباتك البريئة،
وكلّ مساحات الصدّق والنّقاء التي تغلّف سريرتك.
أنتظر عودتك كي أغلبك في
دور (طاولة) مؤجّل تحدّينا فيه بعض كثيراً ولم نلعبه حتّى الآن.
أنتظر عودتك كي أناقشك في
كثير من القضايا المجتمعيّة المؤجّلة، وكي أخبرك عن آخر من أزعجني من (حبايبي)،
فما زلت أرمق باب مكتبك كلّ يوم كعادة ابتدأت منذ أوّل يوم عمل لي معك.
أنتظرك كي نسافر معاً لنقف
الوقفة ذاتها ونحن نطالع معلماً تاريخيّاً حدّثتك عنه قبل سفرنا، ولنردّد العبارات
ذاتها التي تمنح المكان سحراً عجيباً، وتحوّله من مجرّد جماد صامت، إلى روح ناطقة!
أنتظرك يا صديقي لأسباب
كثيرة.. عد إلينا ولا تطوّل الغيبة، فكلّ شيء يشتاق إليك. وأنتم أيّها الأحبة:
فقط..أدعوا له!