كانت السّاعة قد اقتربت من السّابعة صباحاً وأنا ما زلت
أتجوّل في شارع الاستقلال متأمّلاً معالمه، متفرّساً في وجوه من حولي من المارّة، مركّزاً
على المحلات التي سأحتاج إليها عاجلاً كمحلات الصّرافة، وشركات الاتّصالات، وفي
نفس الوقت باحثاً عن سكن مناسب أقضي فيه أيّام الرحلة، وكانت المقاهي الشرقيّة ضمن
ما استهواني بينما خطواتي السّريعة تذرع الشارع لدرجة أنّني كنت أقف أمامها بعضاً
من الوقت معتقداً أنّني لن أجد غيرها لو أكملت مسيري، متردّداً بين الدّخول أو
مواصلة الطريق بحثاً عن السّكن أوّلاً، وضماناً لوجود عنوان يمكن أن تصل إليه
حقيبتي التي نسيت في الدّوحة، ذلك أنّني عاشق قديم للمقاهي بعبقها الجميل، أتلذّذ
بمشروباتها السّاخنة من شاي، ونعناع، وقهوة، وسحلب، وكركديه، وأطرب لصوت أحجار
النّرد وهي تتناقل من يد ليد، وأكاد استنشق عبق رائحة الأرجيلة العجمي وهي تفوح في
المكان وكأنّها شذى عطر باريسيّ معتّق، لدرجة أنّني عادة ما أحدّد من ضمن خياراتي
في الأسفار أن تتوافر مقاه من هذا النّوع في البلد الذي أرغب في السفر إليه، بعكس مقاهي
الإسبرسّو واللاتيه والكابتشينو ذات الطّابع الغربيّ التي أجد فيها نوعاً من
الثّقل غير المستساغ!
عند وصولي إلى
النفق القريب من برج جلاطا أو (غلطا) حيث مقرّ نادي (جلاطا سراي) الشهير، وبالقرب
من أحد مداخل محطّة مترو (شيشانه) أدركت أن الشارع قد انتهى لأبدأ جولة أخرى في
الشّوارع الجانبيّة المتفرّعة منه متفاجئاً أنّها لا تقلّ عنه حركة وحيويّة، فعلى
الرغم من صغر هذه الممرّات التي تربط شارع الاستقلال بحيّ (بيرا) التابع لمنطقة
(بيوغلو) إلا أنّها كانت مليئة بالحركة والنشاط، ويتوزّع على جانبيها عشرات
المطاعم والمقاهي والنّزل والمحلات المختلفة، واكتشفت في جولتي هذه أنّ أكثر
النّزل والفنادق تقع في تلك الشّوارع والممرّات الجانبيّة لا في شارع الاستقلال
ذاته كما كنت أعتقد، وحمدت الله أنّني لم أقم بالحجز المسبق عن طريق (البوكينج) أو
غيره من المواقع، ذلك أنّني وجدت خيارات كثيرة متنوّعة وبأسعار مناسبة جداً تختلف
عن تلك التي لاحظتها عند بحثي في الشوارع القريبة من ميدان تقسيم، الأمر الذي أتاح
لي فرصة الانتقاء الجيّد إلى أن عثرت أخيراً على ضالّتي في فندق (او بيرا)، وهو
نزل صغير أنيق يقع وسط سلسلة من الفنادق التي تحمل اسم الحيّ (بيرا)، ويحتل عدّة
طوابق من مبنى تاريخيّ قديم يعود إلى القرن التاسع عشر، ولعل من بين الأسباب التي
دعتني إلى اختياره دون بقيّة الفنادق التي تزخر بها المنطقة بساطة المكان وأناقته،
حيث أنّه أشبه بالفيللا الأنيقة المنظّمة بشكل ينمّ عن ذوق رفيع، وقلّة عدد غرفه
ونزلاءه، ومناسبة سعره، وبشاشة استقبال موظّف الاستقبال وعمّال الخدمة به وأنا
الذي كنت قد استمعت إلى كلام قد يملأ مجلّدات كاملة حول تجهّم موظّفي الفنادق
الأتراك وسوء معاملتهم للزبائن، كما أن الفندق يطلّ على شارع هادئ وحيويّ في ذات
الوقت يحتوي على عدد من الفنادق بتصنيفاتها المختلفة، وبعض المؤسّسات الحكوميّة، بالإضافة
إلى قربه من كافّة الخدمات التي قد أحتاج إليها، فالشارع يحتوي على نقطة شرطة،
ومحلات بقالة وحلاقة، وأنماط مختلفة من المطاعم والمقاهي التركيّة والعالميّة، وهو
على بعد خطوات من محطّة التكاسي المركزيّة، ويبعد حوالي 200 متر من محطة المترو، ولا
يفصله عن شارع الاستقلال سوى ممر جانبي زاخر بالحركة والنشاط، كما اكتشفت بعد ذلك
قربه من كثير من الأماكن السياحيّة والتاريخيّة في المدينة، فبرج جلاطا الشّهير لا
يبعد أكثر من نصف كيلو من المكان، كما أنّ المكان يكاد يشكّل شرفة واسعة يمكنك من
خلاله أن تتأمّل معالم اسطنبول القديمة بجسورها الشّهيرة كجسر جلاطا الذي يربط
منطقة بيوغلو بمنطقة (أمينونو) والسلطان
أحمد بمساجدها وبازاراتها الشّهيرة، ومنطقة السلطان أيّوب، وقصور السلاطين
المختلفة، وغيرها من الأماكن التي ستشكّل مادّة دسمة لتفاصيل أيّام الرحلة
المتبقّية.
كما أنّ غرف
الفندق كانت برغم صغرها ( وهي سمة عامّة في أغلب فنادق اسطنبول) أنيقة دافئة، بل
تكاد لا تختلف كثيراً عن فنادق الخمسة نجوم، مع توافر كافّة الخدمات بها من قنوات
فضائيّة متنوّعة بما فيها قناة عمان، وخدمة (الواي فاي) فائقة السرعة، ودورة
المياه الرخاميّة التي تشعرك وكأنّك في أحد الحمامات التركيّة القديمة مع لمسة
تطوّر أنيقة، وغيرها من الخدمات الأخرى، الأمر الذي شعرت معها بأن الأمور ستكون
طيّبة في بقيّة الأيّام، فأنا من الأشخاص الذين يعدّون موضوع السكن جزءاً مهمّاً
من أيّة رحلة يقومون بها، وأمراً لا يقلّ شأناً عن بقيّة الأمور كزيارة المعالم
السياحيّة، والتعرّف على تفاصيل الحياة اليوميّة للبشر، بل أكاد أعتبر مهمّة
اختيار المكان متعة من ضمن المتع التي أبحث عنها في أسفاري، ولا غرابة أن أتنقّل
بين أكثر من مكان في كلّ مرّة اذا ما استهواني شيء ما في أحد الفنادق أو النّزل!
وكأنّني أسابق الزّمن كي أستمتع بكلّ ثانية متبقّية من
أيّام الرحلة السبعة، أهبط من غرفتي في طريقي إلى ركن الطّعام مكتفياً بتقليب بعض
القنوات، وأخذ دشّ سريع لاستعادة نشاطي البدني، وحفظ بعض النّقود والأوراق المهمّة
في الخزينة الملحقة بالغرفة، وهي عادة قديمة أقوم من خلالها بحفظ أشيائي المهمّة
من أوراق، ووثائق سفر، وأموال في أكثر من مكان تحسّباً لأيّ ظرف، ومن ثمّ قمت
باختيار مكاني في ركن قصيّ يطلّ على الشّارع الهادئ برغم حركة البشر التي لا تنقطع
من سيّاح قادمين، وآخرين مغادرين، وموظّفين في طريقهم إلى أعمالهم، وآخرين
متسكّعين، لتأتيني العاملة وهي سيّدة خمسينيّة تشعّ الطيبة والابتسامة من محيّاها،
تشبه الممثّلة كريمة مختار وتكاد تقسم أنّك رأيتها في مسلسل تلفزيونيّ ما تؤدّي دور
الأم الطيّبة الحنونة كما كانت تفعل تلك الممثّلة، لدرجة أنّني اعتقدت أنّ أصدقائي
كانوا يقصدون أشخاصاً آخرين عند حديثهم عن التجهّم والعبوس والتكبّر في المعاملة!!
بكلّ ودّ ترحّب بي كريمة مختار – أقصد العاملة – ثم
تسألني إن كنت أرغب في تناول القهوة أم الشاي أولاً، وهل سأذهب لإحضار الإفطار
الذي يتكوّن من أطباق تركيّة صميمة كالزيتون بنوعيه الأسود والأخضر، وتشكيلة
منوّعة من الأجبان، والسلطات المختلفة، والمكسّرات، والمجفّفات أم تعدّه لي
بنفسها! بادلتها الابتسامة كعربون شكر لمعاملتها الراقية وطلبت منها كوب شاي أحمر
بعد أن وصلت نكهته الزكيّة إلى خياشيم أنفي وكان أول كوب شاي لي في تركيا.. وما
ألذّه!