ذكريات
قاهريّة
من منّا لم يعشق القاهرة مدينة
الألف مئذنة، والمتحف المفتوح لحضارات عريقة توالت على هذه المدينة طوال سبعين
قرناً من الزمان، ومن منّا لم يرتبط معها بذكريات تبقى في الذاكرة مهما طال الزمان
أو قصر، ومن منّا لم يشرب من مائها ولأجله يعاوده الحنين إليها حتّى ولو كان قد
حلف في آخر مرّة أنّه لن يقرب أسوارها إن بقي على قيد الحياة!
وللقاهرة في داخلي قطار من
الذكريات، وبركان من الشوق والحنين، يخمد أحياناً إلا أنّه سرعان ما يثور معلناً
الرغبة في العودة إليها مهما كانت الظروف. وبرغم أنّني زرت القاهرة ثلاث مرّات
خلال الأشهر القليلة الماضية، إلا أنّني لم أستعد معها ذكرياتي كما فعلت في هذه
المرّة. لعلّه (روقان البال)، ولعلّه كذلك وجود صحبة جميلة لا تقلّ عشقاً وولهاً
بقاهرة المعز.
كانت الجماليّة بأحيائها
وشوارعها التاريخيّة محطّة جولتنا الأولى خاصّة وأن الوقت كان ليلاً، ولن تجد
مكاناً أجمل للسهرة من الحسين مهما تمّ اغراءك بالمجمّعات الحديثة، والمقاهي الشيك
التي ملأت أحياء القاهرة الجديدة. ما إن ترجّلت من مقعدي في السيارة التي وقفت بنا
أمام الخان إلا وكانت رجلاي تعرف طريقها جيّداً في أزقّة
وحواري شوارع جوهر القائد، والمعزّ، والأزهر، والدرب الأحمر، فهذه وكالة الغوري،
وتلك وكالة قايتباي، وهذا المشهد الحسيني، وذاك جامع السلطان برقوق، وتلك أبواب
النصر والفتوح وزويلة. أزقّة وحواري تحتاج إلى عبقرية في فك ألغازها وطلاسمها. في
تلك المشربيّة كانت تقف جارية تزيح جانباً من خمارها وهي تطالع بإعجاب أحد
الفتوّات، وفي هذه الناصية أوقف الحاج فهمي الفيشاوي حصانه الأبيض استعداداً لفتح
أبواب مقهاه الشهير، وفي باحة تلك الوكالة أنزل عدد من تجّار الأقمشة القادمين من
بلاد فارس حمولة قوافلهم من السجّاد الفارسيّ الفاخر، وبعض الأقمشة التي جلبوها من
بلاد الهند والصين، وفي صحن ذلك المسجد تحلّق عدد من الصبية القادمين من الصعيد
والوجه البحري حول شيخ أزهريّ يتلقّون منه درساً في النحو، أو الفقه، أو التفسير
وفاء لنذر نذره أهلهم في لحظة صفاء روحيّ بأن يهبونهم للعلم الشريف وخدمة الدين،
ومن ذلك الزّقاق خرج فارس مملوكيّ رشيق بزيّه المميّز، وسلاحه الأبيض الذي يكاد لا
يفارقه خوفاً من غدر أحدهم به كعادة المماليك في صراعاتهم الداخليّة فيما بينهم.
تبدّلت المشاهد وعاد المكان مزدحماً الآن بالباعة
الجائلين الذين يبيعون كلّ شيء في رحلة البحث اليوميّ عن قوت العيش، ومتسوّلين
أصبحوا علامة مميّزة من علامات المكان يمكن أن تشعر بفقدهم لو لم تراهم في أيّة
زيارة لك للمكان، و"غلابة" يفترشون مداخل مسجد الحسين والساحة المحيطة
به بحثاً عن رغيف قد يرّق قلب أحدهم فيأمر أحد الباعة بتفريقه بينهم، أو انتظاراً
لمولد دينيّ قادم احتفاء بمولد النبيّ الأكرم، أو أحد مشايخ الصوفيّة، يومها قد
تحلّ علب "الملبس"، والملبن، والحلاوة الطحينيّة، والجوزية، والسمسمية، والفوليّة
محلّ الرغيف الناشف.
في جولة بحثنا عن إحدى دور
السينما في منطقة وسط البلد، استعدت كثيراً من
الذكريات في شوارعه المختلفة، ابتداء بطلعت حرب وعلاماته المميّزة كمقهى جروبّي
الذي أكمل العقد الثاني بعد المائة منذ انشائه، ومكتبتي مدبولي والشروق، ومول طلعت
حرب الذي كانت مقاهيه
محطّة لي في كلّ جولة شتويّة ( وما أكثرها) أقوم بها في المنطقة، مروراً بشوارع
قصر النيل، وشريف، وعماد الدين، و26 يوليو(فؤاد سابقاً)، وغيرها من الشوارع
المتوازية والمتقاطعة التي تميّز المنطقة التي أراد الخديوي اسماعيل أن تكون باريس
الشرق، وعهد بهذه المهمّة للمهندس الذي خطّط شوارع العاصمة الفرنسية خلال تلك
الفترة.
في كلّ ناصية كنّا نقف بها
كان زميلي الذي يرافقني يعيدني سنوات طويلة إلى الوراء ونحن نستعيد مشاهد من أفلام
عربيّة بالأبيض والأسود عن حركة البشر والسيّارات، وأنماط الملبس والعمران وغيرها،
وعن الأوبرا القديمة التي تحوّلت إلى"كراج" عمومي بعد احتراقها مطلع
السبعينات، وعن حديقة " الأزبكيّة" التي لطالما وقفت السيدة أم كلثوم
على مسرحها تشدو بأغانيها الجديدة في حفلتها الخميسيّة كلّ شهر، وعن سورها الذي
تحوّل إلى قبلة للباعة الجائلين، وعن فندق "الكونتيننتال" الذي بات الآن
أشبه بالأطلال بعد سنوات من العزّ الغابر، وعن القاهرة التي كانت تغسل شوارعها كل
صباح بالماء والصابون، وكانت الأنظف عالميّاً في مطلع ثلاثينيّات القرن الماضي. لم
تعد شوارع القاهرة كما كانت، تغيّرت أشياء كثيرة بها عدا.. العبق.
ونحن نخترق شارع سراي
الأزبكيّة في طريقنا إلى "عماد الدين" بين صفّ طويل من المقاهي والمطاعم
المتخصصة في صنوف الطّعام المصريّ، كان زميلي يتمايل نشوة وهو يطالع واجهات
البنايات العتيقة بنمطها الأوروبّي المميّز، أو وهو يستمع إلى مقطع من أغنية لأم
كلثوم تنبعث من المقهى الذي يحمل إسمها في شارع زكريا
أحمد المجاور، والذي يتصدّر مدخله تمثال نصفيّ للستّ. ترى هل هناك ارتباط بين اسم
الشارع واسم المقهى أم انّها المصادفة! أولم يكن زكريّا أحمد أستاذاً للسيّدة
ولحّن لها عدداً من الاغنيات مثل "اللى حبّك يا هناه"، و" أنا فى انتظارك"،
و"حبيبى يسعد أوقاته"، و"هو صحيح الهوا غلاب"، وغيرها من
الأغنيات التي مازالت تحتفظ بها الذائقة الغنائيّة العربيّة. في هذه الجولة قطعنا
شارع عماد الدين من أوّله مروراً بشوارعه
الفرعيّة التي حملت أسماء عدد من الفنانين كشارع نجيب الريحاني، وشارع زكريا أحمد، وشارع علي الكسار، وشارع سيد درويش . قبل حريق القاهرة الشهير عام 1951 كان عماد الدين هو
قبلة الفنّ والفنّانين في مصر، وكانت المسارح والسينمات والمقاهي تتراصّ على
جانبيه. الآن تحوّلت معظم هذه الدور إلى مكاتب لشركات الهندسة وبيع الأدوات الكهربائيّة
والزراعيّة وغيرها. أيّ تناقض عجيب أغرب من ذلك!!
في (ألفي بك) وهو المطعم
الذي افتتح عام 1938 بشارع الألفي في وسط البلد وكان مكان علية القوم المفضّل يوم
أن كان رطل الكباب بثمانية ملاليم، وجوز الحمام بخمسة ملاليم تناولنا وجبة عشاء
مصريّة صميمة، وامتلأت طاولتنا بأطباق النيفة، والممبار، والكباب، وحلل الخضروات،
والأرز بالخلطة، والسلطات بأنواعها، وطبعاً لا يحلو الوداع دون تناول الحلو كالأرز
باللبن، وأمّ علي، ويأتي الشاي الأسود كختام لهذه الوجبة الدسمة التي لن تتناولها
سوى في القاهرة، وتحديداً في وسط البلد. كل شيء في المطعم كان كما هو عليه قبل
سنوات طويلة عدا السعر، فالملاليم تحوّلت إلى مئات من الجنيهات. لا بأس إن اقتصر
الأمر على الجانب المادّي، كلّ ما أتمنّاه ألا يحمل التغيير معه أشياء كثيرة جميلة
تضيع كلّ يوم في وسط الزحام.
في القاهرة، سرح خيالي
بعيداً وأنا أعبر النيل عبر كوبري قصر النيل بأسديه الشهيرين، وتسارعت نبضات قلبي
وأنا أقترب من ميدان روكسي حيثمشواري اليومي باتّجاه كلّيتي العريقة، وعند مدخل
محطّة سكّة حديد مصر أحسست بطعم الشاي الأخضر الذي كنت أشربه في كلّ مرة أستقل
القطار من وإلى الاسكندريّة. القاهرة مدينة لا تملك إلا أن تعود إليها في كلّ مرّة
تسنح لك الفرصة بذلك، ومخطئ من يظنّ أن الأحداث السياسيّة يمكن أن تغيّر شيئاً من
روح وعبقها، كثيرين حاولوا وفشلوا. ذهبوا هم، وبقيت القاهرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.