الأربعاء، 3 سبتمبر 2014

لماذا نجحوا


على الرغم من حالة التبرّم والضيق التي اكتست بها تجربتي خلال الأيّام السّتّة التي قضيتها في بانكوك إلا أنّ ذلك لا يمنعني من أن أرفع القبّعة لهذا النمر الآسيوي الذي تفوّق على نفسه في مجال صناعة السياحة، بل وسبقت بانكوك مدناً كبرى عريقة كلندن وباريس وروما وسنغافورة في عدد السيّاح الأجانب الذين زاروا المدينة خلال عام 2013، ولعلّ الطوابير الطويلة التي رأيتها في مطار بانكوك الجديد خلال رحلة عودتي كانت خير شاهد على ذلك.

وإذا ما أتينا لتشخيص أسباب هذا التفوّق التايلندي في مجال السياحة، وبالتالي الانتعاش الاقتصادي الكبير المصاحب لها فإننا يمكن أن نجد عدداً من هذه الأسباب اقتصاديّة كانت أم تكنولوجيّة أم اجتماعيّة أم فكريّة، فقد أدرك المهتمين بصناعة السياحة في تايلند أنّ التسوّق هو من الأولويات التي تحدّد وجهات كثير من السيّاح عند رغبتهم في قضاء اجازاتهم، لذا اهتموا بتنويع أنماط التسوّق المختلفة بحيث لا تقتصر على نمط دون الآخر، أو مدينة دون غيرها، فليس غريباً أن تجد التنوّع العجيب في الأسواق والمحلات والبازارات، فإلى جانب مراكز التسوّق الضخمة من مثل (سيام براجون) أو جوهرة آسيا كما يطلق عليه، و(سيام سنتر)، و(ام بي كي)، و(بلاتنيوم مول)، و(سنترال وورلد)، وغيرها من المجمّعات الضخمة التي تحوي معظم العلامات التجاريّة العالميّة التي يمكن أن تتخيّلها، أو حتّى المنتجات التخصصيّة وخاصة في مجال تقنية المعلومات، فإنّ هناك الأسواق الشعبيّة اليوميّة أو الاسبوعيّة والتي توفّر كثيراً من السلع والبضائع المحلّيّة والعالميّة بأسعار تنافسيّة يمكن لأيّ سائح أن يستفيد منها، هذا عدا الأسواق ذات الخصوصيّة الثقافيّة كالسوق الصيني، اضافة إلى الأسواق المتخصّصة في سلع أو أدوات بعينها كالماكولات أو التحف، أو الأثاث المنزلي..ألخ، ويالطبع فإن هذه الأسواق والمراكز والمجمّعات لا تقتصر على العاصمة بانكوك فقط، بل هي سمة في كل المدن السياحيّة في تايلند.

كذلك من الأشياء التي أسهمت في انتعاش السياحة في هذا البلد هو الاستثمار الهائل في مجال النزل السياحيّة، ومن يتصفّح مواقع حجوزات الفنادق المعروفة في شبكة المعلومات العالمية كموقع (بوكينج) وغيره، سيفاجأ بالعدد الكبير للفنادق والشقق والنزل الفندقيّة الأخرى في معظم المدن السياحيّة في تايلند بتعدد مستوياتها، وأسعارها المناسبة مقارنة بكثير من الدول السياحيّة الأخرى(اذا ما استثنينا شارع العرب في فصل الصيف)، كما أنّ الخدمات التي تقدّمها كثير من هذه الفنادق وخاصة في المدن والجزر السياحيّة كشيانجماي وبوكيت وكرابي وسامواي وغيرها تغري السائح بالعودة إلى هذه المدن والمنتجعات مراراً، كخدمات النقل المجّاني من وإلى المطارات والأسواق، وخدمات الانترنت المجّاني، والسلاسة المتناهية في عمليات الحجز والمغادرة، عدا الاستقبال المثالي الذي يحظى به السائح عند وصوله إلى هذه النزل، والأسعار المثاليّة لها مقارنة بمستوى الخدمة والتصنيف.

ومن الأمور التي أسهمت في الانتعاش السياحي المذهل لتايلند هو وسائل النقل المتنوّعة والمتطوّرة، فعندما وصلت إلى مطار بانكوك في طريقي إلى شيانجماي كانت هناك حوالي أربع شركات محليّة تسيّر عشرات الرحلات اليوميّة بين المدينتين بمعدّل رحلة خلال نصف ساعة، بأسعار زهيدة، هذا عدا الرحلات الجوّية الخارجيّة، وعدا وسائل النقل الفردي أو الجماعي من حافلات وتكاسي، وعدا شبكة القطارات الحديثة التي تربط بين كافّة المدن، بحيث يعدّ حصولك على وسيلة نقل بين مدينة وأخرى أمر في غاية السهولة واليسر.

أما على مستوى المدن فهناك العديد من وسائل النقل كالتكاسي الحديثة بمختلف أنواعها وأحجامها، وسكك حديد القطار المعلّق، ومترو الأنفاق التي تمتاز بوجود محطّات لها في معظم أماكن التسوّق والترفيه، إضافة إلى وسائل النقل المائيّة كالقوارب والسفن السياحيّة، مما يخفّف عليك توتّر الازدحام الذي يعدّ سمة ملازمة للمدن الكبرى.

ناهيك عن التطوّر المذهل في استخدام التكنولوجيا في عمليّات التواصل، فخدمات (الواي فاي) المجانيّة يمكن أن تجدها في كل مكان، ولا يكاد يخلو أيّ مكان ابتداء بالمطار وانتهاء بالفندق من وجود شبكة واي فاي مجّانيّة حتّى في الكافيهات والمطاعم ومحلات الحلاقة وغيرها، بل انني اندهشت عندما التقط هاتفي أكثر من شبكة واي فاي مجانية في عدد من الأماكن السياحيّة الجبليّة في ريف شيانجماي على الرغم من أن المكان يبعد عن العمران وعن قلب المدينة، كما أن مكائن السحب الآلي متوفرة بشكل يكاد تجزم أن عددها يفوق عدد سكّان البلد، فلا يمكن أن تدخل مطاراً أو شارعاً أو زقاقاً أو سوقاً صغيراً أو كبيراً دون أن تلمح العشرات من هذه المكائن والتي تتوافر بأكثر من لغة من بينها العربية في بعض مناطق الجذب السياحي الخاص بهم.

من الأشياء الرائعة التي شدّت انتباهي كذلك هو ربط الأماكن السياحيّة الطبيعيّة أو التاريخيّة بنمط وطبيعة المعيشة فيها، فعندما زرنا المنطقة التي يسكن فيها ذوات الرقاب الطوال وجدنا أن الحكومة قد أنشأت لهن قرى كاملة يمارسن فيها أنشطة اقتصادية واجتماعيّة وفنيّة تحفظ تاريخ المكان، وتكون مصدر رزق لهن، وتشجعهن على المحافظة على هذا الإرث، وهو نفس الأمر الذي تكرّر في أماكن أخرى مشابهة بحيث أنشأت الحكومة لسكان تلك المناطق عدداً من البازارات والأسواق يعرضون فيها منتجاتهم التي تتنوع ما بين منتجات زراعيّة أو فنيّة أو غيرها بحسب طبيعة المنطقة أو المكان.

من بين أسباب تطور قطاع السياحة في تايلند كذلك هو اهتمامهم بوسائل الترفيه المتعلّقة بشريحة مهمّة ألا وهي شريحة الأطفال وصغار السنّ، ولا يمكن للسائح أن يزور تايلند دون أن يعرّج على مدينة السفاري التي تحاكي بيئات السفاري الحقيقيّة، أو مدينة سيام بارك المائية، أو دريم وورلد، أو غيرها من مدن الأطفال المختلفة.

ولا يمكن أن نتحدّث عن عوامل ازدهار النشاط السياحي في تايلند دون الحديث عن السياحة العلاجيّة التي أصبحت من العوامل الرئيسة في استقطاب السيّاح وخاصة الخليجيّين منهم، فبحسب احصائيّات حديثة فإنّ هناك ما يقرب من 400 مستشفى في تايلاند تقدم خدمات الرعاية الصحية المتقدمة منخفضة التكاليف مقارنة بنظيراتها في الدول الأوروبيّة، ولن تستغرب عزيزي القارئ لو علمت أن أكبر مستشفى خاص في آسيا يوجد في تايلند، هذا عدا المراكز المتخصصة في عمليات التدليك والتجميل وغيرها من الأنشطة الصحيّة المختلفة، ولعلّي لا أخفي انبهاري بما رأيته في مستشفى بامرونجراد الدولي من مبنى فخم يوازي فنادق الخمسة نجوم إن لم يتفوّق عليها، وسرعة انجاز معاملة العلاج المجانيّة، وسهولة مقابلة الطبيب المختص، بينما كانت ابنتي وقتها مشغولة بالرسم تارة واللعب تارة أخرى في غرف ترفيه خصصت لهذا الغرض بوجود موظفات متخصّصات لحين انتظار موعد مقابلة الطبيب والتي لم تزد عن 10 دقائق.

اجمالاً يمكن أن نقول أن السياحة في هذه البلد قد نجحت بسبب رغبة المسئولين عن قطاع السياحة فيها في جعل السائح يعيش الخيارات المختلفة لها، بحيث لا ترتبط بنشاط واحد فقط يمكن أن يتأثر يوماً ما بأيّ عامل اقتصادي أو سياسي أو فكري معيّن، أو أن تدخل جهة ما في طور المنافسة واجتذاب السائحين، لذا فإن السياحة في تايلند يمكن أن تجتذب الطفل، والشاب، والرجل، والمرأة، والشيخ الكبير، ورجل الأعمال، والمريض، والمفكّر، والمسئول الباحث عن لحظة التقاط أنفاس، كل بحسب رغبته وميوله وغرضه.

د.محمد بن حمد العريمي
mh.oraimi@hotmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.