الأربعاء، 10 سبتمبر 2014

المغرب.. من ثاني


للبلدان في ذاكرتي محطّات تصاحبني أينما ارتحلت شرقاً أو غرباً، وبرغم مرور عام كامل على زيارتي للمغرب، هذا البلد الاستثنائي في كلّ شيء إلا أنّ هناك كثيراً من المشاهد التي ما برحت تسكن ذاكرتي وتأبى أن تفارقها، ومع اقتراب عودتي إليها بدأت تلك المشاهد تقفز مجدداً إلى الواجهة وكأنّها فيلم سينمائي أوشك عرضه على البدء.

ماذا عن مقاهي كازا القديمة في سور "باب مراكش"، وسوق الدار البيضاء، وفي زنقات شارعي محمد الخامس والجيش الملكي! وهل ما زال (الأتاي) حاضراً أم غيّرته تداعيات العولمة، وهل ما زالت مقاعد "القهوة الخضراء"، و"مقهى فرنسا" التاريخي في شارع محمّد الخامس وساحة الأمم المتّحدة كاملة العدد بزبائنها وحديثهم الذي لا ينتهي حول السياسة، والبرلمان، وأداء الحكومة، والمنتخب القومي، وقضايا متجدّدة تضاف كلّ يوم وسط تداعيات الأحداث العالميّة وتناقضاتها التي لا تنتهي.

وكيف هي زنقات كازا وبيوتها البيضاء كإسمها الحديث، ترى هل ما زالت تحتفظ بألقها ونظافتها ونمطها المعماري الفريد بلونه الأبيض كلون قلوب ساكنيه! وهل سيعذرني بقيّة الرفاق إن تهت فيها كما تهت في المرّة السابقة من فرط الذهول والانبهار!

 المغاربة عاشقون للتراث العربي، مغرمون بفنونه، محافظون على ملامحه، فهل سأتذوّق رائعة عربيّة طربيّة جديدة هذه المرّة! وماذا سيحضّر لي موسى من أغنيات! هل سيسمعني شيئاً من التّواشيح الصوفيّة، وهل سيذهب بي جنوباً حيث مزامير "العيون" وما أدراك ما أهل العيون! وهل سيبحر بي في نغم بلخيّاط أو الدوكالي وغيرهم من أساطين الطرب المغربيّ، أم سيكتفي بثومة وحليم ونجاة كما في المرّة (الفارطة)! المغربيّ عروبيّ حتّى النّخاع وإن تباعدت المسافات.

ترى هل ما زال الأبيض والأخضر يلوّنان الطريق بين كازا والرباط كلوحة ربّانية جميلة، وماذا عن (المحمّديّة)! هل ما زال الأوروبيّون يستوطنون بعضاً من بيوتها بحثاً عن الفردوس المفقود!، وهل ما تزال شوارعها تعجّ بعشرات الورود البشريّة من طلاب جامعاتها وكليّاتها التي ترغم البليد على حبّ العلم!

كيف سأجد الرّباط، وآه من الرباط، تربط قلبك بوثاق لا يكاد ينفصم وتودّ أن لا يحين وقت الرحيل. ترى هل انتهى مشروع "الحزام الأخضر" الذي يلفّها وهي الخضراء أساساً بلا رتوش، أم لم تنته الشركة المنفّذة له من اكماله بعد كما يحدث معنا، وهل ما زالت موائد (الوزّان) عامرة بأطايب المطبخ المغربي الذي يعدّ أحد مطبخين لا ثالث لهما في الوطن العربي، وهل سأتلذّذ بتذوّق الطاجن والحريرة والبصطيلة، أم حلّت محلّهما أكلات ووجبات من هنا وهناك لا رابط يجمعها سوى حبّ التغريب! وهل ما زالت التكشيطة، والجلباب، والقفطان، والبلغة تزيّن واجهات متاجر شارع القناصل، والسويقة، وسلا المزدانة بزبائنها الذين يبحثون عن العبق المغربيّ في اختياراتهم، و(عـالأصل دوّر).

وكيف هي صومعة حسّان وقصبة (الوداية) بسورها ومسجدها المسمى بالعقيق! ترى هل ما زالت تحتفظ برونقها الجماليّ الأثري أم امتدّت إليها يد التشويه، وأصبحت ملاذاً لسكن العمالة الوافدة كحال حارات وقرى أثريّة أعرفها جيّداً!!

وماذا عن (شالة)، وما أدراك ما شالة، هل سأجد فرصة سانحة لزيارتها مرّة أخرى! وهل سيرافقني ابراهيم هذه المرّة للتعرّف على ملامح هذه المدينة الأثريّة التي تتراكم فيها آثار حضارات رومانيّة وأندلسيّة ومغاربيّة متعاقبة، وهل سنتذكّر سويّاً ونحن نتجوّل في أرجائها حضارة عربيّة غابرة كانت يوماً ما في الأندلس من سهول خضراء يانعة، وطيور مغرّدة، وفتيات حسان مستلقيات على خمائل، وصوت فيروز ينساب من خلف ذاكرتنا مذكّراً بكلّ ذلك، أم سيخلف وعده لي!  

وماذا عن نهر أبي رقراق الجميل، هل مازال رقراقا منساباً كانسياب الحبّ من قلوب أهله، وهل مازال مستمراً في مناجاة رفيقته (شالة) حول ما فاتها من أحداث طيلة سباتها الأبديّ، وعن حضارات قامت وبادت بعدها، وعن بشر يغدون ويروحون!

ترى كيف سأجدك يا موسى! أيها الرجل الفارع في الطول والكبرياء، هل مازلت محتفظاً بتفاؤلك ونقائك وحبّك الصادق لبلدك كما عهدناك، وهل شاب فوديك قليلاً، أم أنّ "الدهن في العتّاقي" على قول إخوانك المصريين. ما زالت حكاياتك عن (ايفران) بلدتك الجميلة الواقعة في أحضان أطلس التّل تغريني بزيارتها، فهل ستحملني إليها يوماً ما كما وعدتني!

وماذا عنك يا إبراهيم! هل ستكتب هذه المرّة شعراً عفويّاً كعفويّة قلبك كما فعلت في المرّة السابقة! لا أعذره إن فعل ذلك، فهناك لا يمكن إلا أن تحبّ الشعر وتستحضره في كلّ لحظة، فما بالكم بعاشق للجمال وللحياة كابراهيم!

وماذا عنكم طاقم السفارة العمانيّة في الرباط. أيّها الرائعون الذين كنتم - ولا زلتم- تضربون المثل في التّحلّي بكلّ مفردات قاموس قيم المدرسة العمانيّة من كرم، وحسن استقبال، ووقفة صادقة، في كلّ بقعة تحطّ فيها قدم عمانيّة، هكذا علّمتكم قيم بلدكم وثقافته، وهكذا وجّهكم رمز هذا البلد وباني نهضته، وهذه هي رسالتكم الأولى التي تعلّمتموها في بيوتكم أولاً، وفي مدرسة الخارجيّة العمانيّة والمؤسّسات الأخرى بعد ذلك: أن تكونوا سفراء لبلدانكم بقيمكم، وثقافتكم، وحسن تعاملكم مع الآخر، واهتمامكم بالعماني أيّاً كان أصله وفصله ووضعه الوظيفيّ أو المادّي، فما دام عمانيّاً فهو في عيونكم وقلوبكم، ولخدمته تسخّر جهودكم وإمكاناتكم.  

مازال استقبالكم الحار أيّها الرائعون، وكرمكم الحاتميّ، ومتابعتكم المستمرّة لأحوالنا طوال فترة إقامتنا في الزيارة السابقة تغمر قلوبنا حتّى الآن، ومازلت أحلم أن أقضي ليلة واحدة في بيت تلك الشخصيّة العمانيّة الكريمة الذي تذوّقنا على مائدته العامرة ما أعادنا إلى قصص الكرم التي يتباهى بها الآخرون وهم يتحدّثون بذهول عن كرم أهل نخل وبقية العمانيّين الأسطوري الذي يصل لحد التضحية بكلّ غال من إجل إكرام ضيفه. أقول ما زلت أحلم بليلة واحدة أقضيها هناك، ولكن كي أستشعر متعة قراءة "تحفة الأعيان"، وتذوّق شعر "النبهاني"، والابحار مع "السندباد" في رحلة أسطوريّة أخرى من رحلاته، ولكن إلى بلاد المغرب هذه المرّة، برغم التحف التي تعجّ بها بازارات المغرب وأسواقها، إلا إن هذه الشخصية العمانيّة الرائعة رأى في إرث أجداده من كتب وموسوعات وتحف خير ديكور لبيته العامر.

عائدون إليك أيها المغرب، نحمل أرواحاً مضمّخة بعطر حضارة شرقيّة ضاربة في العراقة، عائدون لنكتب حكاية جميلة مفرداتها المحبّة والتآلف والتعاون، فهل ما زال في قلبك متّسع لنا !

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.