(1)
في آخر زيارة لي إلى تونس
تناولت وجبة غداء تونسيّة صرفة في مطعم "السرايا"، وهو بيت كان يملكه
أحد الأثرياء الأتراك قبل 400 عام، وحوّل إلى مطعم سياحي مع الإحتفاظ بديكوراته
وطابعه القديم، كما دعيت إلى وجبة عشاء في مطعم "العلي" وهو أحد البيوت الصغيرة
القديمة التي تقع في ممرّ يعجّ بالمحلات القديمة بالقرب من جامع الزيتونة، وقبلها
كرّرت نفس التجربة في مطاعم آخرى مشابهة كانت يوماً ما بيوتاً أثريّة كالعهد
القديم، ونجيب محفوظ بالقاهرة.
في كثير من الدّول تشكّل
الحارات والأسواق والأبواب القديمة ركناً مهمّاً من أركان السياحة، يسأل عنها
السائح ساعة وصوله إلى المدينة، ويحرص على ارتيادها، وتتبّع معالمها، والشراء من
أسواقها التقليديّة. وغنيّ عن الذكر الحديث عن القوانين والتشريعات التي تصدرها
تلك الدول للحفاظ على تلك المعالم، أو المئات من الأسر والعائلات التي تعيش من
وراء الأنشطة المرتبطة بتلك الأسواق، عدا حفظ تاريخ المدن التي تقع بها، وتشكيلها
لمتاحف مفتوحة يمكن خلالها التعرّف على ملامح تلك الدول على مرّ السنين، والحضارات
التي تعاقبت عليها.
السؤال: ما هو الحال لدينا،
وكم معلماً أثريّاً لم نقم بهدمه أو تحويله إلى سكن للعمالة الوافدة حتّى الآن!!
(2)
على امتداد الطريق الذي
يربط بين الدار البيضاء وطنجة مروراً بالمحمّديّة والرباط والقنيطرة وأصيلة
والعرائش وغيرها من المدن، يمكن أن تشاهد بساطاً أخضر لا يكاد ينقطع من المروج
الخضراء الطبيعيّة أو المزروعة، ويمكنك أن تلحظ الاهتمام البدي بالأشجار الطبيعيّة
المتناثرة على أرجاء ذلك الشارع من حيث التشذيب بحيث أصبحت أقرب إلى المتنزّهات
الطبيعيّة التي نراها في بعض أفلام السينما.
لازلت أتذكّر منظر الوديان
المنتشرة على مساحات واسعة مابين صور وجعلان قبل سنوات من الآن كوادي سال،
والشكلة، والصالح، وأبو فشيغة وغيرها تمتلئ بالمئات من أشجار الغاف والسّمر والأثل
التي كانت تشكّل متنزّهاً طبيعيّاً وأماكن استجمام لسكّان تلك المناطق في ظلّ عدم
وجود أماكن ترفيه مناسبة كالحدائق والأندية وغيرها، وكانت تلك الوديان تمتلء
بالزائرين لها خلال الأجازات والعطلات المختلفة، أو عقب انتهاء مواسم الأمطار، حيث
ينتشر العشب والكلأ في أرجاء تلك الأودية.
السؤال: كم شجرة غاف أو أثل
قد تبقّت الآن في تلك الوديان بعد انتشار عدد من الأشجار الطفيليّة فيها، وما الذي
يمكن أن يحدث للعالم لو غلطنا وحوّلنا بعض هذه الوديان إلى متنزّهات طبيعيّة تحت
إشراف بلدي! ومتى سنحتفل بموت آخر شجرة تحويها هذه الوديان تحت رعاية وزارة
البيئة!!
(3)
في مدينة طنجة المغربيّة
وقفت أتأمّل السيّاح وأبناء المدينة وهم يرتادون الشاطئ الرمليّ الطويل للمدينة ما
بين صائد للسمك، وممارس للرياضة، ومسترخ على الرّمال الناعمة. الشاطئ يمتد على
مسافة تزيد عن خمسة كيلو مترات، وقد تمّت معالجة الرمال التي تكوّنه بحيث تبدو
ناعمة مستوية بلا تعرّجات، كما تمّ عمل كورنيش للشاطيء من الجانب المطلّ على
الشارع الرئيسيّ، وممشى يخترق هذا الشاطئ من أحد أطرافه، بحيث بدا كلوحة جميلة
تغري الجميع بارتياده والاستمتاع بمرافقه المختلفة.
الشاطئ من رأس الحد حتّى
مرباط لا يكاد يختلف عن هذا الشاطئ إن لم يفقه جمالاً، ولكن شتّان بين الشاطئين من
حيث الاهتمام والتنظيم، فشواطئنا أصبحت أشبه باللوحة السيرياليّة القبيحة بحيث
تركت عليها العوامل المختلفة أسوأ مخلّفاتها من تعرّجات رمليّة بفعل الرياح، وآلاف
الشوارع المتداخلة بفعل السيارات، وملايين العلب المتكدّسة منذ عشرات السنين،
وبقايا كائنات وأسماك بحريّة أوشكت على التحلّل، وبضعة استراحات اسمنتيّة لا تصلح
لشيء عدا تشويه المنظر العام، وزاد الطين بلّة اقامة شوارع داخليّة بمحاذاة البحر
تماماً مما عرّض الشواطئ القريبة منها لانحسار الرمال عنها كما هو الحال في
الأشخرة.
في ظل وجود وزارة سياحة،
ووزارة بلديّات، ومجالس بلديّة، ومكاتب ولاة، وووو...ألخ، وفي ظل وجود موازنات
ماليّة لا تقل عن موازنات تلك الدول التي تعاني من مشاكل اقتصادية، وكثافة
سكانيّة، وغيرها من التحدّيات، يبقى السؤال المهم: متى سيأتي اليوم الذي (نقلّد)
فيه تلك الدول ولو في جانب واحد من جوانب الاهتمام بالنواحي البلديّة أو السياحيّة
أو الجماليّة!! وما هي ردّة فعل المسئولين عن العمل البلدي والسياحي لدينا وهم
يزورون مدن العالم المختلفة ويرون الاهتمام الكبير بجوانب التراث المختلفة من مدن
وأحياء وحارات وأسواق قديمة بحيث أصبحت مركز جذب سياحي مهم، كذلك وهم يستمتعون
باحتساء الشاي أو القهوة في أحد شواطئ تلك البلدان وهم يرون جوانب الإبهار الذي
يحيط بها! ألا يفكّرون ولو لمرّة أن يطبّقوا ولو جزء ممّا يرونه في تلك الدول، أم
أن كل شئ عادي لديهم!!
(4)
خلال الزيارة الأخيرة التي
قمت بها إلى مصر، وتونس، والمغرب شكّلت المأكولات البحريّة جزءاً مهمّاً من مائدتي
اليوميّة، فلا يكاد يمرّ يوم إو اثنان إلا وتحطّ بنا الرّحال في مطعم متخصّص في
المأكولات البحريّة بمختلف أصنافها من أسماك، وحبّار، وأخطبوط، وبلح بحر،
وكابوريا، وصدف وغيره، بل إنّ حيّاً كحيّ "حلق الوادي" في أطراف تونس
العاصمة يضمّ العشرات من هذه المطاعم على امتداد شاطئ الحيّ والشوارع الداخليّة،
والتي تتفنّن في طهي وإعداد هذه الأصناف، وقس على ذلك كثير من المدن الساحليّة في
تلك الدول.
أمّا نحن في عمان، وبرغم
أنّ مناهجنا الدراسيّة توكّد على أنّنا الدولة العربيّة الثانية في الانتاج السمكي
بعد المغرب إلا أنّه يندر أن تجد مطعماً متخصصاً للمأـكولات البحريّة عدا بعض
المطاعم البدائيّة في مسقط مقارنة بالمطاعم التي زرناها في تلك الدول، وإن وجدت
هذه المطاعم لدينا فهي في الغالب غالية السعر، محدودة الأصناف.
جرّب أن تذهب إلى أيّ مدينة
أو قرية ساحليّة في عمان وتبحث عن مطعم متخصص في المأكولات البحريّة. في أغلب
الأحيان لن تجد، وإن وجدت أحدها فالوجبة لا تخرج عن صنف البرياني أو المكبوس أو
مندي السمك، وغالباً ما يكون السمك المقدّم من نوع واحد أو نوعين، وغالباً ما يكون
كذلك مجمّداً.
ترى ما السبب في ذلك!
أولسنا نطلّ على بحر ومحيط وخليج! أولسنا كنّا نأكل تلك الأصناف بأنواعها في
بيوتنا قبل سنوات من الآن! لماذا لم نعد نرى تلك الأنواع؟ هل الأمر له علاقة
بالتصدير المباشر للخارج! وهل لو أصبحت لدينا صناعة سياحة حقيقيّة لاهتممنا
بإفتتاح المطاعم المختلفة وبالتالي تشجيع الصيادين على اصطياد هذه الأنواع من
المأكولات البحريّة وتوريدها للمطاعم بدلاً من بيعها لعدد قليل من التجّار من أجل
تصديرها؟ ربما.
د.محمد بن
حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com