بمثل ما استقبلتنا به من
الحفاوة غادرنا شنجماي باتجاه بانكوك كي نقضي بها بقية أيام الرحلة، وكما وصلنا بيسر
كانت المغادرة سهلة وميسّرة، فلم تستغرق اجراءات تخليص معاملات الرحلة سوى بضع
دقائق، وكان لكلّ شركة طيران مكتبها الذي يجيبك من خلاله موظّفيها على أيّ استفسار
أو مساعدة ترغب في الحصول عليها، كما أنّ هناك عشرات المحلات والمطاعم التي تنتشر في
أرجاء المطار الصغير بحيث لا تترك لك مجالاً للملل، وكان آخر من ودّعنا ونحن نركب
سلّم الطائرة هو أحد جبال المدينة الخضراء الذي شكّلت الغيوم قبّعة بيضاء تليق
بهيبته وشموخه.
ما إن وصلنا مطار بانكوك
الجديد حتّى تغيّر كلّ شيئ من حولنا، فالمطار عبارة عن مدينة مجهولة المعالم بسبب
كبر حجمه واتّساعه، كما أنّ المئة بات قيمة التوصيل من المطار إلى الفندق في شنجماي
أصبحت سبعمائة هي قيمة تسعيرة تكاسي المطار، وألف وخمسمائة لتكاسي الشركات
الخاصّة، والعشرة دقائق مسافة الطريق إلى الفندق تضاعفت لتصبح ساعة كاملة. مقدّمات
كهذه جعلتنا نشعر ببعض الانقباض، وتنذرنا بأنّ القادم لن يكون جميلاً كما كان خلال
الأيّام السابقة.
ما ان اقتربنا من شارع
سوكموفيت، وتحديداً شارع (نانا) الذي يقع فيه الحيّ العربيّ حتى تضاعف الانقباض
ليصبح سمة لازمتنا طوال بقيّة الأيّام الستّة التي قضيناها في المدينة، والتي لم
تفلح كلّ الجهود لازالتها، على الرغم من أنّنا لم نترك أيّ معلم من معالم المدينة
دون زيارته سواء كانت مدناً ترفيهيّة، أومجمّعات تجاريّة، أو حتّى أسواقاً شعبيّة،
وغيرها من المعالم التي تزخر بها المدينة، وأدركت هنا أنّ مخاوفي من اختيار هذا
الحيّ للنزول فيه طوال مدّة إقامتي في بانكوك كانت في محلّها.
أمّا لماذا كلّ هذا
الانقباض والتبرّم من هذا الحيّ الذي يقصده الكثيرون من العرب والخليجيّين على وجه
الخصوص فهي لأسباب عدّة لعلّ من بينها حالة الفوضى العارمة التي يمتاز بها الحيّ
أو (السوق) على وجه الدّقّة، فالشوارع والسكك مليئة بخليط من السيّاح الخليجيّين،
والمتسوّلين، وباعة كلّ شيئ، وهي قريبة من الوضع في شارع جامعة الدول بالمهندسين
في مصر، بحيث يعتقد البعض أنّ مصر هي شارع جامعة الدول دون أن يضعوا في حسبانهم
آلاف الشوارع والمدن والقرى والنجوع التي تختلف كلّيّاً عن ذلك الشارع، والتي
تمثّل وجه مصر الحقيقي بكرم أهلها وطيبتهم وأصالتهم وحفاوتهم.
الأمر الآخر الذي زاد في
تبرّمي وضيقي هو سوء المعاملة التي وجدتها الفندق الذي نزلت فيه بعكس ما وجدته في
شينغماي، فالصور التي رأيتها في موقع الفندق الإلكتروني تختلف كلّيّاً عمّا رأيته
عند وصولي، واللّوبي أشبه ما يكون بخليّة نحل لا تكاد تجد لرجلك مكاناً فيه لكثرة
النزلاء من أبناء الخليج وبناته الذين لم يتركوا ركناً فيه دون أن يجلسوا عليه
طلباً لشبكة قد تقرّبهم مّمن تركوهم من أحباب وهميّين على مواقع المحادثة
المختلفة، كما أنّك ملزم بدفع ما لايقلّ عن ستين ريالاً عمانيّاً كتأمين في وقت
أنت في أمسّ الحاجة لمبلغ مثل هذا.
الأمر الثالث هو حالة
(الإفتراس) الواضحة على محيّا العاملين في هذا الفندق وغيره من الفنادق القريبة،
ابتداء برجال الأمن، وانتهاء بحاملي الشنط وعمّال النظافة، فالكل يريدك أن تدفع له
طوال الوقت، والكل يعرض عليك خدماته التي لا سقف لحدودها، ولا تكاد تخرج من بوابة
الفندق حتى يتلقّفونك بالأسئلة وعرض الخدمات، أو حتّى فتح باب التكسي والوقوف
بجواره كالصّنم انتظاراً لبقشيش تنفحه إيّاهم.
الأمر الرابع هو حالة
الاستغلال (الفظيع) لجنس كلّ ماهو خليجي، وكأنّ أهل الخليج هم قطيع من البلهاء، أو
اللامبالين بما يحملونه من أموال لا تنفد، فأيّ شيّ تطلبه تجده بأضعاف قيمته خارج
الشارع، ولا مجال للاعتراض، فهناك مغفّلين كثر مستعدّون للدفع، ولك أن تتخيّل أنّ
قيمة كيّ قميص واحد يكلّفك 30 باتاً في حين أنّها بعشرة في شينجماي، وحلاقة الذقن
ب250 بات، في حين أنّها بستين في ضواحي بانكوك الأخرى، وقس على ذلك بقيّة الأشياء
من أطعمة ومأكولات، وخشب يباع على أنّه عود خام، ومراهم عديمة الجدوى تباع
باعتبارها مقوّيات ومغذّيات ومشهّيات،ووو.. ألخ.
الأمر الخامس هو الإزعاج
الشديد الذي تشعر به طوال الوقت، فالمحلات في الغالب لا تغلق أبوابها، والسّكك مزدحمة
بالبشر حتّى لتكاد تشعر أنّك في سوق (العتبة) الشهير بوسط القاهرة، وهو الأمر الذي
يجعلك تسأل نفسك في كل ثانية: أيّ استجمام هذا الذي أتيت أنشده وسط ورشة كهذه؟ وهل
هذه هي تايلند الخضراء التي دفعت الغالي والرخيص كي أحظى ببضعة ليال جميلة تنسيني
تعب السنين؟
أمور كهذه جعلت من أسرتي
الصغيرة تلزم غرفها الضيّقة، ولا تكاد تخرج منها إلا للذهاب إلى إحدى المدن
الترفيهيّة أو المجمّعات التي كنّا نحاول المكوث فيها أكبر مدّة من الوقت بحيث
نعود إلى الفندق طلباً للنوم فقط، ولسان حالنا يقول: لماذا تركنا شينجماي الجميلة
بكل روعة طبيعتها، وطيبة أهلها، ونظافة فنادقها، وهدوء شوارعها، ورخص أسعارها؟
وقد يسأل البعض: مادامت
الأمور بهذه البشاعة فلماذا اخترت الإقامة هناك على الرغم من أنّ بانكوك تعجّ
بمئات الفنادق والشقق والنزل الفخمة والرخيصة نسبيّاً في نفس الوقت؟
هو الجهل أيّها الأصدقاء،
فعلاقتي ببانكوك مقطوعة منذ أربعة عشر عاماً عندما زرتها لليلة واحدة فقط، كما أنّ
حالة الخوف من الجوع هي من جعلتني أختار هذا المكان بالذات للإقامة تقرّباً من
مطاعمها العربيّة، اضافة إلى اعتقادي أنّني سأحظى بإقامة مثاليّة في ظلّ فنادق
غالية تتجاوز قيمة سكنى الليلة الواحدة حاجز الخمسين ريالاً للغرفة مقارنة بكثير
من الفنادق الأخرى التي اكتشفت (متأخراً) أنّها أكثر رقيّاً وشياكة وأناقة، وأنّ
سبب رخص ثمنها مقارنة بفنادق شارع العرب هو قلّة إقبال العرب عليها، كما أنّني كنت
أتوقّع أن أجد بعض الأسر الخليجيّة التي قد تؤنس وحدة عائلتي كما هو الأمر في
شينجماي، فإذا بي أكتشف أنّ الخليج كلّه بقضّه وقضيضه هنا، وأنّ المسئولين عن
التعداد في بعض الدول الخليجيّة لن يجدوا أنسب من هذا الشارع لعمل التعداد
السّكّاني لدولهم.
يبقى سؤال أسأله لنفسي في
كلّ مرّة أزور فيها تجمعاً لعرب، وخليجيين على وجه الخصوص في بلدان عدّة : لماذا
تحتوي هذه التجمّعات على أسوأ ما في سكّان تلك البلدان من صفات؟ ولماذا لا نجد
تصرّفات كهذه في تجمّعات الشعوب الأخرى؟ ولماذا الناس خارج محيط حيّ نانا، أو شارع
جامعة الدول، أو حيّ الروشة وشارع الحمراء وغيرها من الشوارع التي تحوي أماكن
مفضّلة للخليجيّين يختلفون عمّن بداخل تلك الشوارع والأحياء؟ أسئلة كهذه قد أتركها
لبعض الخليجيّين كي يجيبوا عليها بأنفسهم.
أمّا هل كانت الإقامة في
بانكوك كلّها مساوئ، فالإجابة حتماً لا، فهناك أمور ايجابيّة عديدة قد تجد في
المقال القادم متّسعاً لعرضها.
د.محمد بن
حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com