الثلاثاء، 25 مارس 2014

تنـاقضــات



(1)

اتّصل بالمدير كي يحجز له طاولة كبيرة في المطعم الفخم الذي اعتاد الذهاب إليه من حين لآخر، ثم هاتف زوجته كي تؤكّد على أبنائها أن يلبسوا الملابس الجديدة التي اشتراها لهم قبل يومين حيث سيمرّ عليهم بعد قليل كي يأخذهم لتناول وجبة الغداء في البوفيه المفتوح الذي يقيمه ذلك المطعم كلّ جمعه. في طريقه إلى البيت عبث في مؤشر الإذاعة فإذا بصوت طفلة سوريّة تصيح بصوت عال  كفيل بتحطيم قلب أعتى القساة " قتلوا إخوااااتي ".

اضطرب قليلاً، وسرت جسمه بعض الرّعشة، وظهرت أمامه شاشة وهمية تحوي مشاهد لأطفال عصرهم البرد والجوع والألم وفقدان الأهل.

 ما لبث أن تخلّص من كلّ هذا بتغيير مؤشر القناة.

(2)

ملأ عربتي الشراء بالبضائع والسّلع المتنوّعة، ولم ينس أن يلحقهما ببعض من علب المكسّرات والشكولاتة الفاخرة لزوم تسلية الوقت في السيّارة، كما لم ينس أن يحضر لابنته الصغيرة الذرة الصفراء التي تحبّها. في طريقه إلى السيارة طلب من أحد العمّال البسطاء أن يعاونه في حمل العربتين ووضع المشتريات في السيّارة، فهي من الكثرة بحيث لا يستطيع حملها أو تفريغها لوحده.

بحث في جيبه المتخم عن مبلغ يعطيه لهذا العامل الذي كان يحاول في صعوبة رفع أحد الصناديق إلى السيارة فلم يجد عملة أصغر من الريال ممّا اضطرّه للذهاب إلى أقرب محلّ كي يصرفه لنصفين، ثم عاد ليعطي العامل أحدهما وهو يحدّث نفسه إن كان يستحقّ كل ذلك المبلغ أم لا.

أخذ العامل الورقة النقديّة ووضعها على رأسه ثمّ قبّلها شاكراً ربّه على نعمته.

(3)

كان على موعد مع مجموعة من زملاء العمل التطوّعيّ لتأسيس مبادرة اجتماعيّة جديدة تهدف إلى حثّ المقتدرين على التبرع لبناء المؤسسات الخيرية الدينيّة والاجتماعيّة. هو ناشط في هذا المجال، وله العديد من المقالات والكتابات التي تدعو المجتمع إلى التكافل والتراحم والشعور بالآخر.

في طريقه إلى "الكافيه" الفخم الذي يقع في أحد ضواحي العاصمة الراقية حيث موعده مع الزملاء، وحيث اعتاد أن يكتب مقاله الأسبوعي، كعادته كل يوم حانت منه التفاتة إلى اللافتة البلاستيكيّة الضخمة التي تواجه مدخل منزله والتي تحثّ الناس على التبرّع "ولو بريال" لبناء المسجد الجامع ومدرسة القرآن الملحقة به في الحيّ الجديد الذي يسكنه والذي لم تكتمل بنيته التحتيّة بعد.

فتح الصندوق الملحق بالسيارة والذي تعوّد أن يضع فيه بعض (الفكّة) وبقايا المبالغ المسترجعة من المحلات القريبة فوجده عامراً بالكثير من الريالات والأنصاص. تردّد قليلاً ثمّ أكمل مسيره نحو الكافيه.

(4)

اليوم هو موعد نزول راتبه الذي تضاعف خلال السنتين الأخيرتين ووصل إلى رقم لم يكن ليحلم به . اليوم سيفعلها كما كان يمنّي نفسه بذلك منذ فترة طويلة مع بداية كل شهر ثم يتراجع لأسباب مختلفة.

في كل مرة يذهب فيها إلى (البلد) كانت تطالعه صورة جارهم الفقير الذي توفي والده العامل الأعمى البسيط وترك له (دستة) من الإخوان والأخوات مما اضطرّه إلى ترك المدرسة والعمل في نفس وظيفة والده البسيطة برغم أنّه لم يتجاوز العشرين بعد، بدشداشته الزرقاء التي كادت أن تتحول إلى اللون الأسود، والإنهاك الواضح على محيّاه.

يذهب إلى ماكينة الصرف الآلي، هذه خمسين قيمة لحم الوليمة التي وعدت الشباب به، وهذه ثلاثين لتلميع السيارة، وهذه عشرين لشراء الكمّة التي رأيتها بالأمس، وهذه عشـ..، لا، عشرة مبلغ كبير بعدين الراتب ما بيبقى فيه شيء، هذه خمسة ريالات لجارنا فلان.

يذهب إلى بيت جاره ظهراً حيث الناس في حارته يتناولون غدائهم مبكّراً، يطرق الباب مرة وثانية وثالثة في تلاحق مستمر برغم أن أصوات المكيّفات، وفناء البيت الواسع كعادة البيوت في مثل تلك الحارات القديمة كاف بأن لا يسمعه أحد.

يعود من حيث أتى وهو يشعر بنشوة غريبة ويحدّث نفسه: الحمد لله. سوّيت اللي عليّ.

(5)

يجلسان في المقهى (الشيك) الذي يتوسط ردهة أحد المجمّعات التجاريّة، كان كل منهما في كامل أبّهته كعادتهم في كل مساء حيث يلتقون، الكمّة المتناسقة مع لون الم دشداشة وفصّ الخاتم الفضّي وحزام الساعة الثمينة، واللحية الخفيفة المهذّبة بعناية.

كان حديثهم يدور حول الصفقة الأخيرة التي قاموا بها صباح اليوم عندما تمكنوا من بيع أرض تجارية في موقع مهم، كان نصيبهم من عمولتها رقماً أمامه ثلاثة أصفار، وهي العمليّة الثالثة لهم في ظرف أسبوع واحد.

تحدثوا عن مشاريعهم القادمة، وتذكروا وضعهم قبل سنتين عندما كانوا لا يملكون سوى الراتب البسيط في إحدى الشركات الخاصة قبل أن تجرّهم يد القدر إلى العمل في مجال السمسرة العقاريّة، فاتح أحدهم الآخر في رغبته بتغيير سيارته الفخمة التي اشتراها قبل بضعة أشهر، وتحدّث الثاني عن (التوين فيلّا) الثالثة التي يفكر في بنائها.

 تحدثوا عن  كل شيئ الا....الزكاة التي نسوا دفعها.

 

د. محمّد بن حمد العريمي

Mh.oraimi@hotmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.