الثلاثاء، 11 مارس 2014

أحبوا وطنكم

كان سؤالاً غريباً ذلك الذي وجّهته إلي ابنتي (سالمة) ذات الخمس سنوات وهي منكبّة على مطالعة شيء ما في غرفتها: أبويه (أبي بلهجة أهل صور وجعلان)، شي هناك قصّة في المعرض عن سالمه؟ ابويه اشتريها لي.

اقتربت منها فأدركت السّبب في سؤالها، ذلك أنها كانت تطالع بشغف تلك المجموعة القصصيّة (أحب وطني)، للمؤلّفة زينب بنت محمد الغريبية، بألوانها الصفراء والحمراء الزاهية، وتصميمها الجميل، وبطلتها شيخة، والتي اشتريتها لها كختام جميل لزيارتي إلى معرض مسقط الدولي للكتاب والذي رحل قبل أيّام على أمل العودة بعد عام من الآن.

المجموعة (لمن لم يطّلع عليها بعد) تتكوّن من ثمانية كتيّبات تحوي قصصاً تناقش قضايا مجتمعيّة مهمّة ، أتى الأوّل بعنوان (أحبّ عمان)، وذلك من خلال قصّة تعرض بشكل مبسّط للطفل بعض الحقوق والواجبات المتعلّقة به من خلال غرس بعض المفاهيم المهمّة كالوطن، والأسرة، والنظام، والتعليم، والبيئة، والأمن، وغيرها، بينما ركّز الكتيّب الثاني على إكساب الطفل ثقافة مروريّة سليمة، ومراعاة قواعد المرور، فيما اهتم كتيّب (حديقتي الجميلة) بغرس قيم المحافظة على البيئة والمرافق العامّة، وأن يتعلّم الطفل كيف يكون مواطناً مسئولاً، وأن يتّبع السلوك الحضاري في تعاملاته المختلفة، وجاء الكتيّب الرابع ليبرز قيمة العمل وأهميّته في بناء الوطن، ولكي يسهم في توجيه الطفل نحو اختيار مهنة مستقبليّة تناسب ميوله ورغباته، وفي نفس الوقت يحترم كافّة المهن الأخرى وعدم الاستخفاف بها مهما كانت نوعيّتها وقيمتها.

فيما أتى كتيّب (شيخة والسلحفاة) ليكسب الطفل قيماً مهمّة تتعلّق بالرفق بالحيوان، وأهميّة التعاون بين أبناء الفريق الواحد، وتقديم المساعدة للآخرين، مع إبراز المعلومات السياحيّة المتعلّقة بالمحميّات الطبيعيّة بالسلطنة والهدف من إنشائها، بينما هدف الكتيّب السادس إلى إكساب الطفل ثقافة الترشيد والاقتصاد في استهلاك الماء والكهرباء، وضرورة المحافظة على الموارد الطبيعيّة المختلفة، واهتم الكتيّب السابع (ليلى والنّخلة) بتعريف الطفل بألوان علم بلده وشعارها ومعانيها ودلالاتها، بينما اختتمت السلسلة بكتيّب (كلّنا إخوة) والذي هدف إلى غرس قيمة التسامح الدينيّ عند الأطفال، وتوجيههم نحو تقبّل الآخر، واحترام جميع البشر وعدم التمييز بينهم لسبب ديني أو عرقي أو طائفي.

وأنا أتصفّح المجموعة شدّتني أشياء كثيرة جعلتني أقف احتراماً وتقديراً وامتناناً لمعدّتها برغم معرفتي المسبقة بإمكاناتها الفكريّة والتربويّة العالية، إلا أنني لم أتوقع كلّ هذا الاتقان والجودة لأسباب لا تتعلق بإمكانات المعدّة بقدر ما تتعلق بعوامل وظروف أخرى لا مجال لذكرها هنا.

اختارت المعدّة أسلوب القصّة وهو أسلوب تربوي كان له دور كبير في تربية أجيال كثيرة من خلال حكاوي الجدّات والأمّهات التي نشأنا وتربّينا عليها، والتي ما زلنا نحفظ كثير من القيم المرتبطة بها، وكأنّ المعدّة توجّه رسالة خفيّة للأمّهات بأن يعدن إلى ممارسة الدور التربوي الذي كان، وأن غرف الأطفال المختار أثاثها وأصباغ جدرانها بعناية، والألعاب الثمينة المتناثرة في أركان هذه الغرف، والملابس الغالية المشتراة من أرقى المحلات، وركن الألعاب في المجمّعات الفخمة، والمربّيات المجلوبات من بلدان ترطن الانجليزية لا تكفي لوحدها لإحداث التغيير الفكري والقيمي المطلوب مالم يصحبها اهتمام حقيقي ومسئول من قبل الأسرة أولاً .

شدّني في المجموعة كذلك حسن اختيار القضايا وتنوعها، وارتباطها بالقضايا المجتمعيّة المطروحة حالياً على الساحة المحلّيّة، فقصّة (اللهم احفظني على الطريق) تأتي في وقت تبحث فيه الجهات المختصّة عن السبل التي من شأنها الحدّ من الحوادث المروريّة التي أصبحت خطراً يهدّد تركيبة المجتمع لا يقل أثره عن الحروب الفتّاكة والأمراض المستعصية، كما أن قصّة ( أحبّ أن أعمل) تأتي كسند لكثير من المطالبات المجتمعيّة بغرس ثقافة العمل لدى جيل المستقبل في ظل (تغوّل) فئة وافدة أصبح عشم التخلّص من سطوتها كـعشم ابليس في الجنّة، وبالتالي فلا حل سوى بإعداد جيل مستقبلي يدرك جيداً أهميّة العمل الحر أو اليدوي ، وإن مقولة (إن فاتك الميري اتمرّغ بترابه) التي ترى في الوظيفة الحكومية وسيلة أمان وظيفي سهلة ومضمونة ليست دائماً هي الحلّ الأنجع لتحقيق الأمنيات المستقبليّة وظيفياً وحياتياً، وقس على ذلك بقيّة القصص التي تناقش أهميّة الحفاظ على الممتلكات العامّة، وترشيد الاستهلاك في ظل مجتمع يعاني من ثقافة استهلاك سلبيّة تؤثر كثيراً على أمنه الغذائي والصحيّ، بل ووضعه الاقتصادي كذلك.

أعجبني كذلك حسن اختيار عناوين القصص، فعنوان كـ ( اللهم احفظني على الطريق)، و(أحب أن أعمل)، و(كلّنا إخوة) على سبيل المثال هي عناوين تقترب من الطفل، وتخاطب فيه الدافع الوجداني، مما تجعله يتقبّلها ويتأثر بالدروس والقيم التي احتوتها.
شدّني في السلسلة كذلك جرأتها في الطّرح، ووضوحها في سبيل الوصول إلى الهدف المنشود منها بطريقة مباشرة دون مواربة أو تمييع للمعنى، فقصّة (كلّنا إخوة) تتحدّث عن مجموعة من الطلاب في صفّ دراسيّ معين يؤدّون صلاتهم كلّ حسب مذهبه في تسامح ليس بالمستغرب في بلد لم يعرف طوال تاريخه أيّة حروب مذهبيّة، وهي ثقافة يحتاج لها المجتمع في وقت أصبح (البعض) فيه يعتقد أنّ حرّيّة الفكر تعطيه الحق في ازدراء أفكار الآخرين دون مبالاة بما يمكن أن يحدثه ذلك من تأثير على نسيج المجتمع المتماسك.

بهرني في المجموعة اختيار اسم الشخصيّة الرئيسة للقصص الثمان وهي (شيخة) بزيّها العماني الأصيل، وهو اسم وزيّ يرمزان إلى الأصالة الجميلة في ظل تهافت البعض على اختيار أسماء غربية وشرقيّة غريبة عن مجتمعنا، وملابس تتواكب مع آخر صيحات الموضة، لمجرّد أنّه يعتقد أنّ في تمسّكنا بأسماء وزيّ كهذا نوع من الرّجعيّة، وكأن الأسماء والأزياء الحديثة هي من ستجعل أطفالنا يتقنون فنّ الاتيكيت، ويأكلون بالشوكة والسّكّين، بل وقد يتمكّنون من حل لغز النظريّة النسبيّة. ما زلت أحلم بعودة الخيّاطة العمانيّة إلى الساحة مرة أخرى.

تأتي هذه المجموعة في زمن تعاني فيه كثير من القيم المجتمعيّة من تحدّيات كثيرة في ظلّ تسارع معلوماتي وحياتيّ رهيب، وضعف قدرة المؤسسات التربوية والإعلامية والمجتمعيّة على كبح جماح هذه التحدّيات لأسباب كثيرة لعل من بينها مدى وجود الرغبة (الحقيقية) لذلك، وانعدام الاستراتيجيات المشتركة للجهات التي يهمّها أمر هذه الفئات العمريّة، فكل يعمل على هواه، وكلّ لا يبالي إن كانت برامجه ناجعة أم لا، تتشابه مع برامج الآخرين أم لا، فالأهم هو التقرير الختامي الذي (يبري الذمّة)، ويظهر انجازات المؤسسة (الكبيرة) في هذا المجال، بغضّ النظر عن تحقق الهدف المنشود من عدمه.
إن وجود مجموعة عمانيّة كهذه في معرض الكتاب الأخير أعاد لي الأمل في وجود أدب راق وهادف للطفل في ظل شحّ هذا النوع من الأدب في مجتمعنا، واعتمادنا على كتابات مستوردة أعدّت لأطفال آخرين في بيئات أخرى قد  لا تتوافق فكرياً مع مجتمعنا ، كما أنّ وجودها كذلك خفّف لديّ كثيراً من المرارة التي أحملها، والحنق الذي ينتابني وأنا أرى أموال الدولة تهدر أحياناً على طباعة دواوين وقصص من عيّنة ( آهات نملة متصابية)، و(الأرق المتململ)، و(شخبطة ورقة) بداعي تشجيع الإبداع والمبدعين، وكأن الإبداع يقتصر فقط على أمثال هذه الكتابات في مجتمع تعاني فيه أغلب قراه من عدم وجود أكشاك لبيع الصحف، وتفتقر فيه معظم مدنه إلى المؤسسات الثقافية الأولية المتمثلة في المكتبات العمومية، وبيوت الثقافة، وما يرتبط بها من مسارح ، وقاعات مطالعة، وغيرها من المرافق التي ينبغي أن يكون وجودها ضمن أولويات البنية الأساسية التي لا يجوز النقاش حول توفيرها.

ترى هل سيحرص أولياء الأمور على اقتناء مجموعة كهذه، وهل ستتبنّى المؤسسات الثقافية والتربويّة الرّسميّة والخاصّة هذه المجموعة من خلال المناهج والمكتبات التابعة لهذه المؤسسات، أو دعم طباعة سلاسل تالية، وهل سنرى بعض قصصها وشخصياتها تتحول إلى مسلسلات كارتونية، وهل ستفكر مؤسسات أخرى في الاستعانة بمعدّة المجموعة كي تعدّ قصصاً مماثلة تدعم رغبة هذه المؤسسات في ايصال رسالتها التوعوية والتثقيفية إلى شريحة مجتمعية مهمّة ألا وهي المستهلك الصغير.. وهل وهل وهل؟ أسئلة أترك إجاباتها للمستقبل القريب.

تحيّة للداعم الكريم علي مال حبيب الذي اعتدنا منه الوقوف وراء كثير من الأعمال الفكريّة والمجتمعيّة التي تصب في مصلحة الوطن، ولا غرابة في ذلك فهو نجل المثقف الكبير مال الله علي حبيب. تحيّة لزينب الغريبية معدّة هذه المجموعة والتي تحدّت كثيراً من الظروف، وسخّرت امكاناتها وخبراتها المتوالية في عمل رائع كهذا، وتحيّة ثالثة للصديق الدكتور سيف المعمري مستشار المجموعة الذي حمل على عاتقه قضية المواطنة كرسالة آمن بها وعمل من أجلها الكثير لدرجة اعتقادي من شدّة اشفاقي عليه وأنا القريب منه والذي عايشت جهوده المتوالية في هذا المجال أنه.. (يؤذن في مالطا).

د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.