قال لي: والآن وبعد أن صوّت المصريّون بأغلبيّة ساحقة لصالح الدستور الجديد هل تعتقد أن الأوضاع ستتحسّن، وعجلة الاقتصاد ستدور، وسيتمّ القضاء على الإرهاب والارهابيين؟
أجبته: شخصياً أتمنى كل الخير لمصر، فهي كنانة العرب وقبلتهم، ومتى ما كانت مصر بخير فالعالم العربي أجمعه بخير، ولكنّي للأسف لا أعتقد أن الأوضاع ستتحسّن كثيراً، وأعتقد كذلك أن التغيير الحقيقي لم يأت بعد.
سألني مستغرباً: كيف ذلك ومصر قامت بثورتين خلال عامين فقط قدمت خلالها المئات من أبنائها وزهرة شبابها.
قلت له: دعنا نعود إلى الوراء قليلاً كيف نفهم الأمر بوضوح. عندما قامت الثورة المصرية في 25 يناير لم يكن لها تصور محدد لما بعد حسني مبارك، لذا فهي أسقطت رأس النظام فقط وليس النظام بكل تبعاته، لأن من قام بها لم يكن فصيلاً بعينه كما حدث في ثورة يوليو 1952، لذا بقى كل شيء على حاله، وبقت أذناب النظام موجودين على رأس كل مؤسسة، أضف إلى ذلك الأوضاع الاقتصادية المتردية في بلد يبلغ تعداده تسعين مليونا وفي بلد متعدد الطوائف، وفي ظل شعب متلهف لحياة افضل.
لم يكن سهلاً على أي نظام جديد أن ينجح وسط كل هذه التركة، غامر الإخوان بالمنافسة على كرسي الرئاسة وشجعهم أتباع النظام السابق على ذلك، فلا حل لإسقاط الإخوان مستقبلاً سوى بإفشالهم في خطوة كهذه في ظل عدم وجود بديل آخر من الأحزاب الكرتونية الأخرى، وساعدهم الاخوان على ذلك بغباء سياسي، وبتلهف على حلم انتظروه طويلاً، وبعدم تعودهم على عمل سياسي كبير كهذا، وباختيارهم لشخصية طيبة بلا كاريزما فبدأت بعدها الازمات وتضخيم المشاكل بمساندة نخبة لا هم لها سوى اقصاء الاخوان، وبدعم من آلة اعلامية ضخمة مملوكة لرموز الحزب الوطني، إضافة إلى الصراع الخفي بين الاخوان وبين مؤسسات تخاف على مكانتها كالأزهر والقضاء، ومؤسسات لديها عداء خفي مع التيار الاسلامي كالكنيسة.
قاطعني: ولكنّ الدستور الحالي به من المواد والبنود ما يمهّد لمرحلة جديدة في حياة المصريين، ولحياة سياسيّة واجتماعيّة واقتصادية أفضل، والدليل نسبة الموافقة التي أذهلت العالم.
قلت له: مشكلة مصر ليست في دستورها، فدستور الاخوان لم يختلف كثيراً عن الدستور الحالي، ودستور1971لم يكن سيئاً، وبه مواد رائعة كثيرة. المشكلة في مدى وامكانية تطبيق هذا الدستور بشكل حقيقي أم لا. المشكلة في فساد رؤوس المؤسسات التي لم تستطع الثورة تطهيرها، في تزاوج المال بالسلطة وتوارث المناصب جيلاً بعد جيل، في منظومة التعليم التي جعلت الطالب الجامعي لا يحضر سوى آخر يوم لشراء مذكرات الاساتذة وحفظها، في المنظومة الصحية التي جعلت الشعب يستدين ليتعالج في المستشفيات والعيادات الخاصة بعد أن تردّى مستوى الخدمات الصحيّة الحكوميّة، في التفاوت الواضح في مستويات المعيشة بين طبقات مطحونة وسكان مقابر، وبين سكان الرحاب والقطامية وبورتو مارينا، في جيوش البلطجية الذين لم تتدخل الحكومة للقضاء عليهم. المشكلة في أشياء كثيرة لن تتقدم مصر دون حلها.
قال لي: أراك تدافع عن الإخوان وكأن عهدهم كان عهد خير ورخاء لا عهد انقسام وتفكك للمجتمع المصري.
أجبته: أنا لا أدافع عن الإخوان أو عن غيرهم، أنا أدافع عن معايير سبق وان انتقدت الاخوان عليها زمن حكم مرسي. القضية قضية مبدأ وليست قضية اخوان وجيش ومن الأفضل، علينا أن نضع معايير نحتكم اليها عند الحكم على أي قضية وأن ننحي مشاعرنا وصورنا الذهنية المرسومة مسبقاً جانباً، كل ما أخذه المعارضون على مرسي يطبق حالياً بشكل أوسع واوضح ولا أحد يتفوّه بكلمة. خذ معك مثلاً: لماذا أصبح الثوار الحقيقيين فجأة طابور خامس، ومن كان متفرغاً لتسجيل محادثاتهم ؟ ولماذا هؤلاء أنفسهم كانوا أبطالاً وثواراً في نظر الاعلام زمن مرسي ؟ ولماذا يوصف مرسي بالقاتل والديكتاتور وعدو الاعلام مع أن أسهل شيء يمكن فعله في عهده هو أن تسبّه في أي قناة او صحيفة ، ولماذا يقتل الناس الآن كل يوم وتقفل الصحف والفضائيات ولا أحد يتكلم؟ ولماذا وقف كبار القضاة والاعلاميين والفنانين ولاعبي الكرة ضد مرسي وأيدوا شفيق، ولماذا هم الآن أنفسهم يتركون شفيق ويؤيدون السيسي، ولماذا هؤلاء ذاتهم وقفوا مع مبارك لآخر لحظة مع أن عهده كان عهد فساد وأصبحوا ثواراً زمن مرسي؟ ولماذا كان الكل يتغنى بدور الاخوان في الثورة ويسعون لكسب ودّهم بل واشتركوا معهم في تكتل سياسي واحد والآن فجأة أصبحوا في عداد الإرهابيين؟ ولماذا قام السيسي بعزل مرسي في 3 يوليو ولم يعزله عندما أعطى حلايب للسودان وأجّر قناة السويس لقطر، أم ان الامر كان عبارة عن تهويل اعلامي؟ ولماذا تم انتقاد سد النهضة زمن مرسي ثم الاشادة به الآن بعد سقوطه؟ ولماذا يتم الان إعادة مشروع النهضة في قناة السويس بعد أن تم انتقاده زمن مرسي؟
قال: لا حل لمشاكل مصر سوى أن يحكمها رجل من الجيش فهو القادر على توحيد الناس خلفه في ظل حب المصريين لهذه المؤسسة الوطنية.
أجبته: من ينادي بحكم الجيش فهو لا يقدم حلاً شافيا لمشاكل مصر، بل هو كمن يدفن رأسه في الرمال خوفاً من أي عاصفة قد تهب، فمصر دولة عريقة لها تاريخ طويل مع الديمقراطية لذا لا يليق بمكانتها أن يستمر الحكم العسكري بها لمجرد أنّه لا توجد شخصية مدنيّة مناسبة تحكمها.
اعطني الخلاصة. كيف تلخّص الوضع في مصر؟
برأيي أن ما يحدث في مصر هو صراع مصالح يذهب ضحيته فقراء الشعب لصالح حفنة تعودت أن (تكوّش) على مقدرات الامور في ظل انقسام الشعب إلى أغلبية مطحونة وأقلية تعاني من التخمة، وفي ظل بقاء ابن الدكتور دكتور وابن القاضي قاضي، وابن البوّاب بوّاب. هي لعبة مصالح لا أكثر ، وما السيسي الا محطة عبور من واقع حالي ريثما تعود السطوة لتلك النخب.
هناك احتقان حقيقي في مصر وتغييب لصوت العقل فإما ان تكون مع أو ضد، وصراع المصالح سيبدأ قريبا لأن الفساد ينخر في كثير من المؤسسات، ومن ينتظر غنيمة ما ولن يجدها سيتحالف مع الشيطان نفسه ضد الطرف الآخر. وهناك دم سال، الذي قتل ابنه أو أخوه بدم بارد سيظل يحترق ويستغل أي فرصة للانتقام، والمواطن البسيط الذي تم افهامه أن الاخوان أخطر من اليهود سيستوعب مجريات الامور عندما يرى أن الوضع كما هو لم يتغير، والمرأة البسيطة التي رقصت أمام لجنة التصويت هي ذاتها التي صوّتت لصالح دستور الاخوان قبل عام واحد، وفي كلتا الحالتين ربما لم تكن لتعرف شيئاً عن الدستور سوى اسمه، وسوى أن التصويت عليه بنعم قد يدخلها الجنّة في المرّة الأولى، أو قد يخلّص البلد من الاخوان الارهابيين الذين سيقتلون ابنها في المرة الثانية، أو قد تكون فعلت ذلك من أجل جنيه تأتي به ببضعة أرغفة تسدّ بها رمق أطفال أيتام.
كنت ولازلت وسأظل أقول أن مصر لا يمكن أن تتقدم مادامت تدار بالعاطفة دون أية معايير حقيقية، ومادام الاختلاف يتحول إلى تخوين، ومادامت المبادئ تغير في اليوم ألف مرة، وفي ظل غياب العدالة الاجتماعية.
لن تتقدم مصر وستظل على حالها مالم يغيّر المصريون أطباعهم الاجتماعية في علاقتهم مع السلطة والحاكم، ولن نفهم الواقع المصري إلا إذا فهمنا تفكير النخب وأرضية الحياة السياسية في مصر وواقع الحياة الاجتماعية فيها.
د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.