(1)
التقيته بعد آخر لقاء جمعنا قبل حوالي 17 عاماً. كان زميل دراسة أجبرته الظروف على تركها قبل تخرجه من الجامعة بسنتين. عرفت منه أنه التحق بإحدى الشركات الكبرى العاملة في قطاع السيارات، ويشغل وظيفة ادارية في قطاع حسّاس بالشركة.
يحمل صديقي في داخله همّاً كبيراً، فهو يرى زملائه من الجنسيّة (إياها)يتمرغون في نعيم نفس الوظيفة التي يشغلها وغيرها من الوظائف الأخرى بالشركة، فبالإضافة إلى الراتب المغري، فهناك تذاكر السفر السنويّة، والتأمين الصحّي، والسكن المؤثث، وولائم المناسبات المتلاحقة، بينما مازال راتبه هو بعد 17 عاماً من العمل المتواصل لم يتخط حاجز (450) ريالاً، برغم أنه لم يغب يوماً بدون إذن، وبرغم إنه لم يخن الأمانة الموكلة إليه برغم قدرته على ذلك لو أراد، أو يفكر في لحظة معينة أن يتواطأ مع الآخرين لتزوير بيانات بعض القطع، أو استبدالها بقطع أخرى مقلّدة، أو في بيع إطارات مقلّدة على أنها جديدة بعد إعادة تلميعها. لم يفعل زميلي كل ذلك ربما لأن قيمة الوطن مازالت تسكن في داخله بعكس الآخرين من الجنسيّات (إيّاها) الذين يرون في هذا البلد مكاناً للفرص الوافرة التي ينبغي استغلالها بأي شكل وفي أقصر وقت ممكن.
الغريب أنني عندما اتصلت بأحد معارفي الذين يتقلدون منصباً رفيعاً في شركة أخرى تعمل في نفس القطاع كي أجد عملاً أفضل لهذا الزميل، ردّ عليّ قائلاً بعد أن حدّثته كثيراً عن زميلي وأمانته وإمكاناته وخبرته: لا تتعب نفسك كثيراً، فنحن لا نعيّن مدراء عمانيين.
(2)
في الوقت الذي تتحدث فيه وسائل الإعلام المختلفة عن التجاذبات الإثنية، والانقسامات الطائفية في كثير من البلدان التي تدعي أن لديها رصيد كبير من الحياة المدنية، والتي تتباهى بالتعايش وتقبل الآخر، إلا أنني لا أجد مثالاً أقدمه لهذا التعايش أفضل من الانسجام المجتمعي الطبيعي وغير المصطنع في المجتمع العماني، فهو انسجام تاريخي ممتد عبر العصور التاريخية المختلفة، فعدا بعض المشاكل التي كانت تنشب بسبب غياب الحكومة المركزية في بعض الفترات، أو لأسباب اقتصادية بحتة، لم تحدّثنا كتب التاريخ المحلّي عن حروب عمانية قامت على أسس مذهبية أو طائفية.
غير أن ما أخشاه بالفعل هو الاستغلال الخاطئ لهامش الحرّيّة الاعلامية من خلال طرح مواضيع غريبة عن نسيج المجتمع العماني في بعض مواقع التواصل الاجتماعي، أو المنتديات السياسية المختلفة، وانقسام البعض حولها بين مؤيد ومعارض لمجرّد التعصب الأعمى لا غير، ولأنها لامست أو عارضت أهوائهم وتوجهاتهم لا غير.
جميل أن يبقى التسامح والتجانس في ظل وطن يحوي الجميع، والأجمل أن نحافظ على هذا التسامح في ظل التحديات المختلفة التي تتربص بمجتمعنا، فلن نحافظ على نجاح مكتسبات هذا الوطن سوى بالتكاتف والتعاضد، فالدين لله، والوطن للجميع.
(3)
في برنامج "رؤية اقتصادية " كانت فرحتي غامرة وأنا أستمع لتصريح سعادة وكيل الاسكان بأن هناك توجّه لدى الوزارة لبناء وحدات سكنيّة متعدّدة الطوابق للشباب بأسعار رمزيّة. وهو حلم كتبت عنه كثيراً ، وبحّ صوتي وأنا أشرحه للقاصي والداني، وأستعرض نماذج لدول عديدة قامت بتطبيق أفكار مشابهة.
غير أن فرحتي لم تكتمل عندما أردف سعادته بأنّ هذا الإجراء لم يتم إقراره حتّى الآن.
فكرة كهذه هل سترى النور في يوم من الأيام؟
(4)
يكثر الحديث هذه الأيام عمّا حدث من تجاوز أخلاقي في مهرجان مسقط، بل أصبح حديث الساعة، ويندر أن تدخل موقعاً اجتماعيّاً أو منتدى محلّيّاً دون أن تجد موضوعاً أو صورة أو مقطعاً يتناول الحادثة بتفاصيلها الدقيقة.
شخصياً وبرغم اعتراضي على ما حدث، لكني لست مع من ينادون بإلغاء المهرجان أو مقاطعته، بل مع تعديل مساره بحيث يؤدي الغرض المنشود منه فكرياً واقتصاديّاً واجتماعيّاً، فهو فرصة لأشياء كثيرة جميلة ليس أقلها التعريف بثقافة البلد، وإتاحة الفرصة لتذكّر حرف وفنون وموروثات طوتها يد النسيان، ومصدر دخل لفئات تنتظر مناسبات كهذه كي تزيح بعضا من هموم مادية تعانيها، ومتنفّس لفئات اجتماعيّة عديدة مازالت تحلم بالحدائق والمتنزّهات وأماكن الترفيه الاجتماعيّة، وترى في المهرجانات المحلّيّة والمعارض الاستهلاكية فرصة لتغيير بعض الجو في ظل عدم قدرتها على السفر للاستجمام في الخارج، وفي ظل ضعف البديل المتاح محلّيّاً برغم مئات الأماكن الطبيعيّة الخلابة في السلطنة.
لا يجب أن نعالج الخطأ بالخطأ، وعلينا أن نبحث عن سبب المشكلة لا نتائجها كي نشخّصها التشخيص المناسب، لا أن نبدي كثيراً من التشنّج المبالغ فيه ثم ننسى الموضوع برمّته بعد يوم أو اثنين.
(5)
قبل أيّام وفي عزّ النهار لفت نظري ارتداء إحدى النساء الغير عربيات لملابس غير محتشمة بتاتاً في مكان عام يعجّ بكثير من المارّة والقاطنين، وهو منظر سبق وأن لاحظته في زيارات سابقة لأكثر من مركز تجاري في السلطنة.
نعم عمان بلد الحرية والتسامح، ولكن ذلك كله لا يعني أن نقبل بمثل هذه التصرفات لمجرد أن يقول عنا الآخرون ذلك.
ينبغي على أمثال هؤلاء احترام خصوصية المجتمع العماني، وعلى الجهات المعنية أن تتصدى لمثل هذه المشاهد، وألا نجامل على حساب عاداتنا ومبادئنا المستمدة من تعاليم الإسلام الحنيف، ومن عادات عربية أصيلة، ومن إرث حضاري تعب الأجداد كثيراً كي يكوﱢنوه.
(6)
قال لي الشاعر الشعبي الشهير: هل صحيح أن الشاعر يوسف بن عبيد الفارسي توفي؟ قلت له: نعم. منذ أكثر من 6 أشهر. رد عليّ: والله؟ ما عندي خبر. الله يرحمه.
نعم توفي شاعر الميدان الكبير بعد رحلة عطاء تجاوزت السبعين عاماً. رحل في صمت ولم يجد من يتذكره ولو بتحقيق صحفي يتيم وهو الشاعر الجزيل العطاء في الرزحة والميدان وفنون أخرى يرى فيها البعض نوعاً من الرجعيّة والتخلّف.
مرّت وفاة هذا الشاعر الكبير في صمت ربّما لأنه لم يجيد قول قصائد على وزن " وأنا في صخب العبث ألمح نخلة من بعيد فينتابني السأم والجوع" ، وربما لأنه لم يؤلف قصصاً وروايات من نوعيّة " عندما يتثاءب الجليد"، أو " اغفاءة الأرق"، وقد يكون السبب كذلك أنه لم يدوّن قصائده على المناديل الورقيّة كنوع من الحداثة والابداع والخروج على القوالب النمطيّة.
محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com