( بـاغي يسكــن)
أعرفه منذ سنوات عدّه، شاب طموح له مشاريه العملية
والفكرية التي يرغب في تحقيقها، اتصل بي طالباً مشورتي: تعرف أنني انتقلت إلى مسقط
بعد أن وجدت نفسي وميولي في وظيفة جديدة، ولذلك بعت بيتي الذي أملكه في البلد
أملاً في شراء قطعة أرضٍ مناسبة في أطراف العاصمة، وبناء منزل متواضع يكفل لأولادي
حق التمتع بمباهج العاصمة وخدماتها (المميزة) دامت هذه الخدمات مقتصرة عليها لوحدها،
ولكن يا فرحة ما تمت، فبعد أشهر من البحث والتقصي كانت النتيجة أن أقل سعر لقطعة
أرض في أطراف العاصمة البعيدة حيث الوديان والوهاد، وحيث لا ماء ولا خدمات ولا جار
أو ونيس، لا يقل عن آلافٍ عشر فما فوق، بينما لا يقل قيمة كرتون اسمنتي صغير يحتوي
على ثلاث غرف عن سبعين من الآلاف. ما الحل؟
قلت له : بسيطة، قدّم على أرض سكنية كبقيّة المواطنين
الذين تتساوى معهم في الحقوق والواجبات.
أجاب: لم أنتظر هذه النصيحة وقدّمت كلّ أوراقي بمجرد
انتقالي إلى وظيفتي الجديدة، وطلبت منّي أوراق أخرى تثبت اقامتي في العاصمة، وكنت
مستبشراً خيراً بعدما أعطيت وصلاً ذهبياً جميلاً عليه أربعة أرقام للاتصال، وظلّ
هذا الوصل يزيّن درج مكتبي لمدة ستّة أشهر كاملة. وبعد محاولات اتصال أشبه
بمحاولات (ابن
فرناس) في الطيران قال لي أحدهم بأن طلبي قد رفض لأني استلمت أرضاَ قبل سنوات عشر
في بقعة نائية لم تصلها الخدمات حتّى الآن. مازالت تراودني أسئلة حائرة من قبيل:
لماذا طلبوا مني بقيّة الأوراق وأعطوني وصلاً مادام طلبي مرفوض من الأساس، ولماذا
لم يتصلوا بي طوال تلك المدّة ما داموا لا يردّون على أحد من الأساس، ولماذا
تتزيّن اعلانات الصحف كل يوم بأسماء أشخاص مستحقين لقطع سكنية وتجارية وصناعية مع
معرفتي الشخصية بحالة بعضهم التي لا تختلف عني.
قلت له: فلتقدّم على طلب قرض إسكاني من بنك الإسكان فهو
يسعى إلى دعم الحركة العمرانية في البلاد من خلال إتاحة الفرصة للمواطن لامتلاك المسكن الصحي ليعيش حياة كريمة.
قال: فعلتها والله واتصلت، بعد محاولات عسيرة في المرّة
الأولى كان الرد بأن عليّ أن أنتظر لمدّة سنتين كأقل مدّة، وبعد محاولات أكثر
عسراّ في المرة التالية ردّ عليّ آخر بأنّ أقل مدّة لانتظار الدور هي ثلاث سنوات،
وعندما أخبرته بردّ زميله قبل أسبوع قال لي ضاحكاً: وقد تصبح أربعاً لو تأخرت.
قلت له: هناك بنوك إسلامية تقدم خدمات تمويل لشراء
المنازل، فلتجرّب أن تذهب إلى أحدهم.
أجاب: لم أكذب
خبراً واتصلت بكافة تلك البنوك. كانت محاولات فهمي لما يقوله موظفي الخدمة لديهم
أشبه بمحاولات تعلمي للغة سكان الأسكيمو. ما فهمته منهم أن العملية لا تعدو
تلاعباً في الألفاظ والمصطلحات، وأن الفوائد هي ذاتها، كل الاختلاف في أن الأولى
بلا حجاب. لو كانت هذه البنوك صادقة لأوقفت قروضها الرّبويّة الأخرى، ولو كانت جادّة
لموّلت مشاريع البناء كذلك، ولو كانت راغبة في تقديم المساعدة الحقيقية لما قصرت
نسبة التمويل على 80%فقط.
قلت له: إذاً فلتجرّب أن تأخذ قرضاً تجارياً فهو أسرع في
الإنجاز.
رد عليّ: لي تجربة مريرة معه، أخذت قرضاً لبناء منزلي
السابق وظللت أدفع مبلغاً وقدره لمدة خمس سنوات، وفي النهاية اكتشفت أني ما زلت
أسدّد في الفوائد فقط. هل هناك مأساة أكثر ألماً من ذلك.
قلت له: إذاً عليك بالجمعيات الأهلية كما يفعل كثير من
الشباب فهي أفضل الحلول.
أجاب: فعلتها وبحثت عمًن يشاركني فوجدت أن كل واحد فيهم
يريد أن يكون دوره في الاستلام متقدماً. اعذرهم فلكل ظروفه التي لا تقل عن ظروفي.
قلت له: لماذا لا تفكر في شراء شقّة مناسبة وستجد كثيراً
من العروض المغرية، ولن تعد بحاجة إلى شراء أرض أو بيت جاهز.
ردّ عليّ: أخذت بنصيحتك وبحثت في كل الاعلانات، ولكن المضحك
المبكي أن معظم هذه الشقق هي أقرب إلى علب السردين من ناحية الحجم، ولا تكاد تكفي
لفردين، فما بالك بعائلة كاملة، أما الأسعار فذاك موّالٌ آخر.
قلت له: لا حلّ سوى أن تبحث عن موظفة تتزوجها كي تشتركوا
معاً في جمعية أو قسط بنكي كما يفعل البعض.
قال: ولكني أرى المرأة أسمى وأرقى من أن أنظر إليها
كمورد مالي، ولا يمكن أن نهين مشاعرنا لمجرد الرغبة في توفيره.
والحل يا صديقي، ماذا أفعل الآن، هل أتنازل عن أحلامي
وطموحاتي وأعود إلى بلدتي حاملاً خيبة أمل كبيرة، هل أظل رهين شقق الأجار لمجرد
عدم قدرتي على امتلاك منزل يأويني وأولادي بقية العمر، هل أترك وظيفتي وأقف على
قارعة طريق أتسوّل كي تحنّ علي الوزارة وتعتبرني من الفئات المحتاجة؟ هل أغامر
بديني ومستقبلي وآخذ قرضاً ربوياً يحتاج إلى سنوات طويلة قد لا يكفيها ما تبقى لي
من سنوات خدمة أن تفي بسدادها، ولا ما سيأتي من صالحات أعمال أن تمحي ذنوبها.
ماذا أفعل، لا أعرف أحداّ يمكن لي أن أتملّقه كي يحدّد
لي موعداّ أقدّم فيه التماسي، أو أن يتشفّع لي عند أحد المسئولين، أو أن يكلّم لي
موظفاّ قادراّ على إيجاد الحلول السحرية، كي يتم استثنائي والموافقة على طلبي بحجة
أني مواطن صالح أستحق المساعدة كما هو الحال مع بقية المحظوظين.
قل لي يا صديقي : متى ستتفتّق عقلية مستشاري وخبراء
وباحثي الوزارة عن مشاريع إسكانية قادمة يمكن أن تحلّ كثيراً من مشاكل المواطن في
هذا المجال؟ ألا يمكن أن ننتقل من مرحلة تخطيط الأراضي ومنحها، وتشييد المنازل
لبعض الفئات المحتاجة؟ ألا ترى معي أن أعمالاً كهذه لم تعد تناسب المرحلة الحالية،
وأن جهات أخرى كالمجالس البلدية يمكن أن تقوم بهذا الدور؟ ألا يمكن أن نسمع عن
مشاريع إسكان شعبية تقوم على أساس توفير شقق بمساحات مختلفة ويتم تأجيرها أو بيعها
على المواطنين بأسعار مناسبة؟ ألا يمكن ان تقيم
الوزارة الموقّرة مشروعٌ إسكاني وطني
يقوم على أساس الشراكة المجتمعية حيث تقوم بتوفير الأرض وكامل الخدمات المتعلقة
بها، والمساهمة في بناء الوحدة السكنية بنسبة معينة، ويمكن لرجال الأعمال وبعض
الشركات الكبرى المشاركة في هذا المشروع من خلال المساهمة في رأس مال هذا المشروع،
أو تقديم بعض مواد البناء، أو المساهمة في عملية (تشطيب) هذه المساكن وتأثيثها.
ألا يمكن كذلك إشراك المؤسسات الحكومية الأخرى عامة،
والمؤسسات الاستثمارية المختلفة كصناديق التقاعد مثلاً أو التأمينات الاجتماعية،
أو غيرها في الاستثمار في قطاع الإسكان، وإنشاء
المجمعات الإسكانية ، وبيعها بأسعار مناسبة مقابل قيام الحكومة بتقديم التسهيلات
المختلفة لهذه المؤسسات.
والحل يا صديقي. لقد هرمت.
الحل.. لا حل لدي، عد إلى بلدتك أو.. احرق نفسك بجاز.
د.محمد بن حمد العريمي
Mh.oraimi@hotmail.com