ديسمبر
2006.. في مكتبة الكلية العتيقة ألتقي
بالدكتور نصر. هو زميل سابق لي في الدفعة، تعرفت عليه من خلال (السيمنارات) التي
يعقدها القسم كل أحد، ومن خلال رؤيتي المتكررة له في مكتب رئيس القسم المشرف على رسالتي، وتوطدت بيننا
علاقة صداقة طويلة.
- أهلاً
يا دكتور.أي رياح طيبة ألقت بك اليوم هنا؟ أين أنت يا رجل.منذ مدة لم أرك. سألت
عنك الأحد الماضي فلم يجبني أحد عنك.
- كنت
أحضر مناقشة رسالة أحد المعيدين في "المنصورة"، بالمناسبة كنت أريد أن أهاتفك.
طالبة سورية تدعى "نوار" تدرس الماجستير في جامعة القاهرة،عنوان رسالتها
مشابه لرسالتك، تشكو من قلة المصادر كون
موضوع الدراسة حديث العهد نسبياً. حدثتها عنك وهي ترغب في لقاءك مساء اليوم إن
أمكن .اقترحت عليﱠ مقهى
"الحرافيش " الذي في أول فيصل، كونه قريب من سكنها. ما رأيك ؟ هل أخبرها
بموافقتك؟
"الحرافيش"..
سمعت عن هذا المقهى من قبل ولكني لم أزره. هي فرصة إذاً لإضافة تجربة جديدة في سلسلة تجاربي مع مقاهي المحروسة.
أنزل من
شقتي الجديدة التي سكنتها مع بداية الفصل في شارع عدن بالمهندسين، متجهاً صوب
ناصية شارع السودان القريب، ومنه إلى شارع الملك فيصل مروراً ببولاق الدكرور وكوبري
الخشب وكوبري ثروت وجامعة القاهرة ثم
كوبري فيصل فأول فيصل حيث "الحرافيش".
هارباً
من أمواج البشر الذين يزخر بهم الشارع، ومن لسعة البرد المصرية المميزة، أهرول مسرعاً باتجاه المقهى الذي تبدو واجهته
المميزة واضحة للعيان على يسار الشارع ، حيث يستقبلك بحديقته الجميلة المرتبة
بعناية، وأعمال الحفر الجميل على جدرانه الخارجية، وواجهته الكبيرة الغامقة التي
تحمل اسم المقهى باللغة العربية بخط عربي قديم،من ثم تصعد بضعة درجات رخامية كي
تصل إلى مدخل الردهة الداخلية التي يعلوها اسم"الحرافيش كورنر" باللغة
الانجليزية ، وبالقرب منها وضع تمثال للأديب العالمي نجيب محفوظ.
بمجرد
دخولك إلى الجزء الداخلي للمقهى تشعر أنك قد رجعت لعدة قرون إلى الوراء زمن
القاهرة الفاطمية أو المملوكية حيث الجمالية والحسين والغورية وخان الخليلي، فكل
ركن في المكان يفوح بعبق الماضي وزمن الفن الجميل، من حيث ديكوراته
التي تم تصميمها على هيئة القباب، والأرابيسك الذي يزين المقاعد والأبواب، والعمال الذين يرتدون زياً أقرب إلى زي العثمانيين والذي يتميز بالسروال الواسع والقميص الفضفاض ، وحزام الوسط،
وطاقية الرأس المميزة، حتى لتكاد تقسم أنك في قصر قديم من قصور
"الأستانة"، أو أن صاحب المكان هو فنان أو أديب أو عاشق أكثر من كونه
رجل أعمال بالمعنى المعروف.
يحتوي المقهى على عدد من
الأركان فهناك ركن لنجيب محفوظ به مكتبة تحتوي على أهم كتب
وأعماله، وركن
آخر للشاعر بيرم التونسي ، وركن ثالث للأديب يوسف إدريس ومجموعة كتب من
إنتاجه الأدبي، ورابع للكاتب الساخر
الراحل محمود السعدني، وهناك ركن الفن الذي يحتوي على مجموعة كبيرة من الصور
الجدارية لعدد من الفنانين والفنانات رسمها الفنان السوري حسن إدلبي، و ركن خاص
للعائلات.
على كنبة
واسعة في ركن نجيب محفوظ وأسفل جدارية تحمل رسماً لشلة
الحرافيش أجلس منتظراً إياها.أتأمل روعة المكان من حولي معاتباً نفسي كيف تمضي سنة بأكملها دون أن
أكتشف مكاناً جميلاً كهذا؟ منك لله يا فيصل. أنت السبب، زحامك القاتل الذي تتقدم
فيه السيارات متراً، ثم تتوقف دهراً، وعشوائيتك المقيتة، هو من يجعل البعض يعتقد
بأنه لا أماكن جميلة يمكن أن تكون هنا. يقولون إذا أردت أن تعاقب أحدهم فابعثه في
مشوار ظهيري إلى فيصل، فهو سيتكفل بتحطيم ما تبقى في داخله من أعصاب.
قائمة الطلبات التي وضعت على
الطاولة القريبة غريبة بعض الشيء، ولا تشبه القوائم العادية التي يمكن أن تجدها في
أي مقهى آخر
، ففي الغلاف تجد شرحاً لاسم المقهى الذي كان يطلق على الفقراء والبسطاء زمن
المماليك، وأطلقت فيما بعد على شلة نجيب محفوظ الأدبية، والذي اتخذها عنواناً لرواية شهيرة له حولت فيما
بعد إلى فيلم سينمائي، بينما تحوي بقية الصفحات على قائمة الطلبات التي تحمل أسماء
روايات نجيب محفوظ، فبدلاً من أن تطلب كوكتيل فواكه معينة يمكن أن تقول للعامل
أعطني "بين القصرين" مثلاً، وهذا ما يضيف مزيد من التفرد والخصوصية لهذا
المقهى الذي هو أقرب إلى النادي الثقافي منه إلى المقهى العادي.
صوت رجالي
أجش يحمل نبرة حزن واضحة يأتي من الركن المجاور حاملاً مقطعاً من أغنية (في يوم وليلة) لوردة "بقول
بأحبك وحبك كان معاده بعيد.. وفيوم وليلة..ليلة جميلة..هلت المواعيد". إذاً
بدأت فرقة التخت الشرقي الليلة مبكراً في تقديم وصلتها الغنائية ذات الطابع الكلاسيكي القديم،
مازلنا في العاشرة مساء وهي عادة لا تبدأ قبل العاشرة والنصف. هل علموا بحضوري
فأرادوا أن يحتفوا بذلك؟ أقولها في سري باسماً.
من الردهة القريبة تفاجئني بطلتها. هذا الوجه لا يمكن أن
يكون إلا شامياً، ولكن كيف عرفت بوجودي هنا بهذه السرعة؟ هل هي الملامح السمراء
التي تميزني كخليجي عن البقية؟ هل لأني الوحيد الذي أجلس بمفردي؟ ربما.
بابتسامة
مرتجفة تخاطبني: دكتور محمد مو هيك؟
نوار .. كنت أحسب أن نزار كان مبالغاً بعض
الشيء.
شو
بتقول؟ ما فهمت عليك. حضرتك الدكتور محمد صديق الدكتور نصر؟ نعم، أنا هو . وأنت نوار، أليس كذلك؟
هي شامية
حيث الوجه المختلط بياضه بشيء من الحمرة، والوجنة الطرية التي تعتقد أن السماء
كانت تمطر قبل ثوان من لحظة اللقاء.هي شامية حيث تختلط حبات الكرز بالتفاح والمشمش والخوخ بحيث تحتار في الاختيار.
باختصار..هي
شامية من اللواتي تجدهن في قصائد نزار، وهذا الوصف بحد ذاته يكفي.قرأت كثيراً عن
الشام في شعر نزار ولكني لأول مرة أراه يتجسد أمامي في ملامح فتاة.
تقول معاجم اللغة
إن اسم "نوار" يعني (النافرة عن القبيح)، أو الزهرة البرية المتفتحة..
ترى هل هذا هو اسمها الحقيقي أم أطلق عليها فيما بعد؟
على وقع صوت التخت العربي الشرقي ،
والموسيقى الهادئة المنبعثة من اسطوانة قريبة، وصوت نوار الخافت بسوريته المميزة
دار الحوار الطويل.تحدثنا في كل شيء عدا الدراسة والسياسة، فتاة حموية تدرﱢس التاريخ في بلدتها الصغيرة بريف
حماة، أتت في بعثة طويلة الأمد لدراسة الماجستير والدكتوراه، تسكن في (فيصل) لأن
معظم الطلبة السوريين يسكنون هنا، كحال اليمنيين في (الدقي)، والسودانيين الجنوبيين
في (عين شمس)، وحديث آخر كثير.
قبل الثانية عشر بقليل تستأذنني لأن الوقت أصبح متأخراً واعدة
إياي بزيارة قريبة في الكلية كي نتبادل المراجع والدراسات المشتركة.
بينما نوار تغادر المكان أتذكر بيتاً
للفرزدق يقول:
طَرَقَتْ نَوَارُ وَدُونَ مَطْرَقِهَا جَذْبُ البُرَى لِنَوَاحلٍ صُعْرِ
mh.oraimi@hotmail.com