تاركاً نخل شاذون بتاريخها
العريق الذي لم تسعفني السّاعات القليلة التي قضيتها بها في إدراك أبعاده
المختلفة، معجباً بما يقوم به شبابها من أنشطة مختلفة تسهم في صناعة وهج متجدّد
لهذه الولاية العريقة التي تستحقّ الكثير، في طريقي إلى العوابي، أو (سوني) كما
كان يطلق عليها قديماً. كانت بداية معرفتي بسوني في المرحلة الابتدائيّة العليا
عندما كنت شغوفاً بالمشاركة في المسابقات الثّقافيّة، وما زلت أتذكّر شعار الولاية
(المحبرة والقلم)، كما تمّ تصويره في كتاب (أقوال عمان لكلّ الأزمان) للأديب خليفة
الحميدي. عندما كنت صغيراً وأسمع ذكراً للعوابي في الإذاعة أو التلفزيون كنت أعتقد
أنّهم يقصدون (الجوابي)، وهي قرية تقع في جعلان وتحيط بها عدد من واحات النّخيل،
وكنت أغضب وقتها وأنا الطّفل الصغير وأقول لمن حولي: لماذا يذكرون الجوابي دائماً
ولا يذكرون بقيّة القرى!!
كنت قد اتّفقت مع (ناصر)
على أن يجهّز لي برنامجاً مناسباً يغطّي الوقت القصير الذي سأقضيه برفقته في ربوع
الولاية، ويليق بتاريخ العوابي كما كان يحدّثني عنه في لقاءاتنا بعد كلّ محاضرة.
ناصر بن محمّد الخروصي أحد طلابي في برنامج الوثائق بكلّيّة الشرق الأوسط، ومن
المهتمّين بتاريخ ولايته، وكان يحرص على أن يبعث لي بكلّ جديد يتعلّق بتاريخ
العوابي، ويدعوني دائما لزيارتها، كيف لا وهو سليل أسرة توارثت العلم منذ القدم،
وحفيد عالم كبير كالشّيخ جاعد بن خميس الخروصي. ترى هل توجد أسرة واحدة في العوابي
ليس لها باع في العلم والمعرفة!! أذكر قصّة حدثت لي قبل سنوات مع أستاذ لبناني
كبير متخصّص في العلوم الانسانيّة والاجتماعيّة، وينتمي إلى أسرة أدبيّة عريقة،
كان يريد أن يلتقي بأحد علماء عمان ومفكّريها، ومن حسن الحظّ أنّ الشيخ العالم
والأديب مهنّا بن خلفان الخروصي كان يقضي بضعة أيّام بالأشخرة فأخذته له، وبعد
سهرة ثقافيّة جميلة إذ بذلك الأستاذ يبدي انبهاره الشديد، وإعجابه اللامتناهي بما
يملكه الشّيخ من معلومات في مختلف الأبواب والمجالات حتّى التي تتعلّق بلبنان
تاريخيّاً وجغرافيّاً ودينيّاً، وقال لي" الآن فقط صدّقت كل ما كنت تقوله لي
عن المدرسة العمانيّة وعن مكانة علمائها. كنت أعتقد أنّ في كلامك نوعاً من
المبالغة، ولكن بعد حواري مع الشّيخ أدركت أنّك لم تعطها حقّها الكافي كما
ينبغي"!
في طريقي إلى العوابي
أتخيّل عشرات الأحداث التي مرّت هنا وهناك من حولي، جيوش وقوافل وعلماء عبروا هذا
الطّريق من وإلى الرستاق وما حولها، أتأمّل الجبال السّوداء المحيطة بالطريق فأشعر
وكأنّها على وشك أن تنطق بما رأته. في هذه المناطق صنع جزء كبير ومهمّ من تاريخ
هذا البلد العريق. ترى هل مرّ محمّد بن (بور) من هنا وهو في طريقه لحرق مكتبات
الرّستاق وكبس عين كسفتها الشهيرة! وفي أيّ بقعة مجاورة أدرك النوم التاجر اليمنيّ
في عهد الامام سلطان بن سيف الثاني قبل أن يسرقه أحدهم وقبل أن يأمر الإمام بمن (يقصّ)
أثر السّارق ويلاحق أثره حتّى لو وصل حدود السّند في دلالة مهمّة على تسامح
العمانيّين مع غيرهم! أترك تخيّلاتي قليلاً لأركّز في الطّريق فهي المرّة الثانية
التي أصل فيها إلى هنا بعد رحلة جامعيّة يتيمة إلى الرّستاق ونخل قبل سنوات اقتربت
من العشرين. هذه لوحة تدلّ على الطريق المتّجه إلى وادي مستلّ، يا لوادي مستلّ! لا
يذكر هذا الوادي إلا وتتناثر الأشياء الجميلة من حولك، فراشات وورود وخوخ ومشمش
ورمّان وعنب. على ذكر العنب أتذكّر بيت شعر للسّتاليّ يقول فيه:
إن عزّت (الخمر) من هيت
فهات لنا.. ما استلّ من مستل أو سيق من سيق
ربّما لم يكن السّتاليّ
يقصد الخمر الحقيقيّة، لكنّها دلالة بليغة على ما يتميّز به هذا الوادي وقراه
المتعدّدة كالهجير، وحدش، والجميلة (وكان)، وغيرها من القرى الرابضة على امتداده
من آيات سحر وجمال أبدعها الخالق.
هذه قرية (المهاليل)، يوماً
ما وقبل حوالي 300 عام من الآن مات المئات من الأطفال والنّساء والشّيوخ جوعاً
وعطشاً في كهوف جبالها هرباً من صراع العمانيّ ضدّ ابن جلدته العماني!! هكذا هو
التّاريخ.. لا يرحمك عندما توسّع نقاط الإختلاف الضّيّقة مع شركاءك في الوطن
والهويّة على حساب مساحات الإتّفاق الواسعة!!
أصل إلى مدخل (سوني) أو
العوابي الحاليّة والتي يعني اسمها الضواحي والمفرد عابية، وهي الارض غير المستغلة
زراعيا مع قابليتها للزراعة، باحثاً عن مركز البريد حيث ينتظرني مضيفي لأجد نفسي
أمام (بيت الفوق) وهو الحصن الذي بناه الشيخ جاعد بن خميس كسكن له ولعائلته، ثم
استكمل بناءه في عهد الأئمة والسلاطين اللاحقين. قل لي يا ناصر إنّ موعدنا هو عند
(بيت الفوق) لا مركز البريد. في مكان كالعوابي لا مكان للأشياء الحديثة في حضرة
التاريخ!!
يأخذني ناصر إلى بيت ملاصق
لمكتبة الشيخ ناصر بن راشد الخروصيّ، وهو صنو الإمام سالم بن راشد وأحد ولاته
وقضاته على العوابي وولايات أخرى، وكان مشهوراً بشدّته في الحقّ، وحزمه، وطلبه للعلم
واهتمامه به، كيف لا وهو خرّيج مدرسة النور السالميّ! لم تتسنّ لي فرصة دخول
المكتبة لضيق الوقت، ولأنّها كانت مغلقة وقت وصولي، لكنّي عوّضت هذه الفرصة من
خلال ما رأيته وأبهرني في مجلس البيت المجاور لها، والذي اكتشفت أنّه بيت الصّديق
المهندس حارث الخروصي الذي كان زميلاً لي في إحدى مجموعات الواتساب المهتمّة
بالتّاريخ العماني دون أن نلتقي من قبل، وكانت فرصة جميلة للقاء صديق أراه لأوّل
مرّة برغم الحوارات والنقاشات الكثيرة التي جمعتنا عبر أثير التكنولوجيا!!
وبرغم أنّه ترك الهندسة إلى
عالم الأعمال الحرّة، وبرغم المشاغل الجمّة التي ترتبط بمثل هذه الأعمال، إلا أنّ
كلّ هذا وذاك لم يشغل حارث عن عشقه للتّاريخ، فقد حوّل مجلسه العامر إلى متحف شامل
للآثار العمانيّة من نقود مختلفة، وأنواع أسلحة، وأواني، ومشغولات فضيّة، وغيرها.
ما يشغل بال حارث في المرحلة القادمة هو إنشاء متحف مصغّر لهذه الآثار تمكّن
الآخرين من سيّاح وباحثين ودارسين ومهتمّين من التعرّف على آثار الولاية ودراستها.
هو الدّعم فقط!
ألحّ على رفاقي بأن نستغلّ
الوقت قبل الغروب كي أتعرّف على أكبر قدر ممّا يحتويه وادي بني خروص من آثار
ومعالم، ولكي أتخيّل مشهد تنصيب هذا الإمام أو عزل ذاك، ولكي أشمّ رائحة شجر
اللّيمون الذي أوصى به الإمام الوارث بن كعب لأبناء الوادي، ولأعيش الحالة
الوجدانيّة التي عاشها اللّوّاح الخروصيّ، أو السّتاليّ، أو الغشريّ قبل أن يشرعوا
في كتابة قصيدة جديدة من قصائدهم التي ستبقى طويلاً في ذاكرة ووجدان الشّعر
العربيّ، ولكي أتتبّع خطوات الشّيخ جاعد وهو في طريقه إلى مسجده ليقضي وقته
اليوميّ في القراءة والتّأليف، بل ولكي أقرأ أكبر قدر من صفحات هذا السّفر العظيم،
فما الوادي إلا كتاب تاريخ ضخم مفتوح، وهي جولة أرجي الحديث عنها للمقال القادم
بإذن الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق
ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.