عندما طلبت من زملائي في جروب (أصدقاء الوطن)، - وهي مجموعة واتسابيّة تضمّ
نخبة من شباب هذا الوطن الرّائعين في مختلف المجالات – أن يقترحوا لي مكاناً
لزيارتي القادمة صباح الغد، كان ردّ الصديق ناصر البرومي سريعاً وحاسماً: قضي
الأمر، أنتظرك غداً في ازكي!
إزكي؟! ولم لا، فلطالما قرأت الكثير عن هذه الولاية ومعالمها الشّهيرة دون
أن أقوم بزيارة تفصيليّة لها عدا بعض الزيارات السريعة أو المرور الخاطف عليها في
طريقي إلى نزوى أو الشّرقية.
إزكي حيث مالك بن
فهم يهاجر من بلاده اليمن، لتستقبله عمان فاتحة قلبها لكلّ عربيّ، فيردّ لها
الجميل بتحريرها من الفرس بعد موقعة (سلوت) الشهيرة، وحيث ما زال أحفاده يقطنون
بها وبأماكن أخرى في هذا البلد الضارب بعراقته أطناب التّاريخ.
إزكي، حيث جرنان
والحكايات الأسطوريّة التي نسجت حوله، وحيث حلفين بمياهه المتدفّقة من سفوح الجبل
الأخضر العظيم، وحارتي اليمن والنّزار، وحيث فلج (الملكي) الذي تحدّى الغزاة الذين
أرادوا كبسه فأعياهم الأمر، وحيث انطلق موسى بن أبي جابر إلى البصرة مع رفاقه من
حملة العلم في رحلة ساهمت بعد ذلك في تشكيل تاريخ جديد لهذا البلد، وحيث ألّف بن
جعفر جامعه الشّهير، وحيث شكّلت الطّبيعة مناخاً أدبيّاً أنجب شاعراً بحجم أبي
الأحول الدّرمكيّ، وحيث نشأ وترعرع رجل العمل الاجتماعيّ التّطوّعيّ العالم
والوالي والقاضي والمدبّر أبا زيد الرّياميّ، وحيث أشياء كثيرة جميلة شكّلت حكايات
جميلة وأحداثاً مثيرة من أحداث التّاريخ العمانيّ على مرّ عصوره.
وعلى الرّغم من أنّ موعدي مع أبي وهب كان بعد العاشرة صباحاً إلا أنّني لم
أشأ الانتظار حتّى ذلك التوقيت، وكأنّ كل الشواهد التّاريخيّة التي قرّرت الذّهاب
لرؤيتها ستختفي لو تأخرت ساعة أو اثنتين! هل هي العقدة التي لا تزال تلازمني بعد
أن رأيت بأمّ عيني حارات وشواهد أثريّة مختلفة تتحول إثراً بعد عين من جرّاء
الإهمال واللامبالاة، والاستخفاف بقيمتها الأثريّة! ربما.
ولأنّ الوقت مبكّر بعض الشيء، استغلّ الوقت في جولة خاطفة بالولاية،
لأتبعها بزيارة سريعة إلى بركة الموز القريبة، حيث فلخ (الخطمين)، وحصن (بيت
الرّديدة)، وحيث البوّابة الطّبيعيّة المهيبة التي ستأخذك نحو الجبل الأخضر حيث
عالم آخر من السّحر والرّوعة والجمال. قضيت في الجبل الأخضر اسبوعين أعدّهما من
أجمل أيّام العمر عندما كانت هناك مؤسّسة رائعة تدعى (الهيئة العامّة لأنشطة
الشّباب الثقافيّة والرّياضيّة) تنظّم ضمن فعاليّاتها المتنوّعة معسكرات عمل وطنيّ
تستقطب نخبة من شباب الوطن، وتطوف بهم أرجاء السّلطنة صيف كلّ عام. في كلّ مرّة
أأتي إلى هنا أقف أمام مدخل الطريق إلى الجبل متهيّباً الصّعود. هل هي الرّهبة
التي لازمتني في زيارتي السّابقة عندما لم يكن الطّريق قد تمّ رصفه بعد! هل هي
الحوادث التي أسمعها من فترة لأخرى عن عوائل بكاملها لقيت حتفها لأنّ دليلها خالف
إحدى قواعد السّلامة المروريّة الخاصّة بالسّياقة في دروب الجبل! قادم إليك أيّها الجبل لا محالة، إن لم يكن
اليوم فإنّ غداً لناظره قريب.
ألتقي بناصر في منزله الجميل بحارة (الرّسيس)، وبعد تبادل العلوم والأخبار،
وفنجان قهوة أعدّ بعناية كعادة العمانيّ الأصيل عندما يحتفي بضيفه نبدأ رحلتنا مع
التّاريخ الإزكويّ، حيث كانت البداية من حارة (اليمن)، وهي أحد أعرق حارات ازكي
وأجملها، قرأت عن هذه الحارة وشقيقتها (النّزار) كثيراً، بل لا يكاد يمرّ سطر من
كتاب تاريخ يسطّر لإزكي دون أن يذكرهما، وكنت أتخيّلهما مجرّد بيوت متناثرة هنا
وهناك، بل كنت أعتقد أنّ مصطلح (حجرة) يعني الغرفة الصّغيرة لا الحارة المتكاملة
إلى أن وقفت عليهما في زيارتي وأصابني الذّهول ممّا رأيت. للّه درّك أيّها
العمانيّ، ستجعلني أموت كدراً يوماً ما وأنا أرى منجزاتك تستبدل بأخرى لا طعم لها
ولا لون ولا قيمة!
تستقبلنا الحارة بلوحة تعريفيّة وضعها أبنائها في مدخلها للتعريف بها
وبتاريخها وآثارها وعلمائها الذين مروا عليها عبر السّنين، وهي خطوة جميلة تعرّف
الجيل القادم بتاريخ أجدادهم ومآثرهم وإنجازاتهم. ترى هل سأرى نفس اللوحة على مدخل
حارة العقر في نزوى، أو حارة (السّندة) في جعلان، أو بيت الرّسّ في علياء وادي بني
خروص، أو في غيرها من الحارات العمانيّة التي طالها مرض النّسيان! أتمنى ذلك.
أقف على أحد مداخل الحارة مذهولاً مبهوراً، فهي بأسوارها العالية تقع على
تلّة عالية تحيط بها مزارع النّخيل والموز
والمانجو والسّفرجل والليمون. أتذكّر بيتاً للشّاعر خلفان بن محمّد المغتسي
الرّواحي واصفاً الحارة في مجمل حديثه عن ازكي في قصيدة رائعة له:
ويامن القصد ميموناً إلى يمن.. ترى المكارم والغرّ الميامينا
ولأنّ ناصر يعرف أنّني سأسأل كثيراً، وسأندهش أكثر فقد أعدّ للأمر عدّته،
ونسّق مع اثنين من أبناء الحارة وهما الوالد سليمان البهلاني، والشاب محمود
القصّابي كي يرافقانا في جولتنا ويشرحان لنا ما استشكل علينا معرفته، فكانا نعم
المرافقين، فكانت الجولة الرّائعة في هذه الحارة بتقسيمها المعماريّ الفريد
وكأنّها لوح شطرنج قد قسّمت مربّعاته بطريقة طوليّة وعرضيّة متناسقة، فالبيوت
مصطفّة على خطوط مستقيمة، وهي متمايزة في حجمها بحسب وجاهة وثراء صاحبها، وهي تكاد
تتشابه في تقسيماتها الدّاخليّة من صباحات، ودهاريز، وسلالم، وغرف نوم، و(مطاهير)،
ومخازن.
في جولتنا بالحارة مررنا على عدد من المجالس العامّة. أعود بذاكرتي إلى
الوراء لأتخيّل الرّجال وهم يلتقون كلّ صباح لتناول الإفطار الجماعيّ معاً، أو
للإحتفاء بضيف عابر أو قاصد، أو لمناقشة أمر عاجل يهمّ سكّان الحارة، أو لتبادل
المطارحات الأدبيّة والفكريّة المتنوّعة، بينما الصّغار بزيّهم التّقليديّ يتلقّون
بدايات دروسهم في رحلة انطلاقهم نحو عالم الرّجولة والمسئوليّة الذي كان يبدأ في
زمنهم مبكّراً..جداً!!
طفنا كذلك بعدد من المساجد المتوزّعة هنا وهناك. أسأل نفسي: ترى في أيّهم
كتب محمّد بن جعفر جامعه الشّهير في القرن الثالث الهجريّ، وأين كان يستقبل أزهر
بن جعفر طلابه ومريديه! وفي أيّهم كذلك تعلّم وعلّم ودوّن ونسخ علماء من أمثال
جعفر بن محمّد، والفضل بن جعفر، وسعيد بن المبشّر، وجعفر بن زياد، وعمر بن شائق، ومسعود
بن غانم، والدّرمكيّ الأب والابن، وغيرهم من سلسلة طويلة من العلماء الذين أنجبتهم
القشع، والعلم، والمصفّيا، وعدبي، والبرزى، والحارات الأخرى القريبة!
في إحدى الحارات الجانبيّة يشير الوالد سليمان إلى أحد البيوت المجاورة
لـ(تركبة) حلوى عمانيّة قائلاً: هذا هو البيت الذي نشأت فيه وترعرعت، وتزوّجت فيه
قبل أن أغادر الحارة القديمة. أتخيّل الوالد سليمان وهو يذهب كلّ صباح مع أقرانه
كي يهاديهم صاحب التّركبة ببعض الحلوى السّاخنة الملفوفة في (خصفة صغيرة) يطيرون
بها فرحاً ليتناولونها قرب ضاحية مجاورة، أو على ضفّة فلج (العلم) القريب. بل أكاد
أشمّ رائحة الحلوى الزّكيّة وهي تنضج على نار هادئة أوقدت من سمر عمانيّ، واستخدم
في اعدادها ماء الورد الطبيعيّ المجلوب من الجبل الأخضر، والهيل الذي تشمّ رائحته
من مسافة عدّة فراسخ، والسّمن الذي تعبت بدويّة عمانيّة تقع خيمتها على أطراف
صحراء بعيدة في تذويبه وحفظه. أين هي القهوة يا ناصر، فالحلوى لا يحلو طعمها بدون
قهوة عمانيّة مرّة بنكهة الهيل والزّنجبيل الطّاغية عليها. أقولها في سرّي طبعاً.
هذا هو جامع إزكي العريق بتصميمه المعماريّ الفريد بمحاريبه وأروقته واسطواناته المتعدّدة، يقال
إنّه كان يشتمل على64 اسطوانة و3 أروقة، اختصرت فيما بعد عندما تمّ ترميمه في زمن
الإمام عزّان بن قيس. رأيت كثيراً من المساجد في عمان ولكنّي ربّما لأوّل مرّة أرى
جامعاً قديماً بهذه السّعة والضّخامة، اذا ما استثنيت جامع (القباب) في جعلان كوني
عشت لفترة من الزّمن بجواره.
قبل أن نغادر الحارة أسألهم
عن عين سعنة، وآه من عين سعنة، فلطالما خلد هذا الإسم بذاكرتي منذ سنوات طويلة
عندما قرأت (نونيّة) الدرمكيّ لأوّل مرة، وحفظتها بعد ذلك، وردّدتها كثيراً في كلّ
محفل أو مساجلة شعريّة أشترك بها، وهي القصيدة التي شغلت الكثيرين من أرباب الأدب
في عمان وقتها، وعارضها شعراء كثر، وسارت الرّكبان من الرّستاق إلى العلياء فنزوى
وإزكي وسمائل ومسقط بالرّدود والآراء حولها ما بين مؤيّد مدافع، ومعارض منتقد،
الأمر الذي يشهد على مدى ما وصل إليه أدباء عمان وعلمائها من سمعة كبيرة في مجال
النّحو والبلاغة والنّقد الأدبيّ، وهي القصيدة التي يقول مطلعها:
ما بين بابي عين سعنة واليمن.. سوق تباع بهال القلوب بلا ثمن.
تجروا بما احتكروا به وتحكموا..
فجواب من يستام منهم لا ولن.