كنت في المقال السابق قد تناولت أهم ما جاء في المحورين الأول
والثاني من المحاور التي اشتمل عليها خطاب جلالته السامي في افتتاح الدورة الخامسة
لمجلس عمان، وهما محوري الشورى والبنية الأساسية.
وفي هذا المقال سألقي الضوء على بعض الملامح المهمة التي تناولتها
باقي المحاور، وهي محور القطاع الخاص، ومحور التعليم، ومحور ملامح السياسة العامة
للدولة.
ففي المحور الثالث أكد
جلالته في بداية حديثه على أهمية القطاع الخاص كركيزة أساسية في التنمية بشقيها
الاقتصادي والاجتماعي، ثم فنـﱠد – حفظه الله – الانطباع السائد لدى البعض حول أن هذا القطاع هو
قطاع ثانوي تكميلي هدفه تحقيق الربح المادي فقط دون التركيز على الجوانب
الاجتماعية المرتبطة به، وهو انطباع خاطئ قد يكون سببه هم العاملون بهذا القطاع من
مسئولين ورجال أعمال لم يستطيعوا التواكب مع دعوات جلالته المتكررة لهم بضرورة أن
يلعب هذا القطاع دوراً أكثر أهمية في المرحلة المقبلة يتوافق مع توجهات الدولة،
ورغبتها في تنويع مصادر الدخل، ودعوتها للمستثمر الخارجي.
كما نلمح في خطاب جلالته دعوته الصادقة للشباب العماني إلى الالتحاق
بالعمل في هذا القطاع وعدم انتظار الوظيفة الحكومية التي قد لا تأتي دائماً كون أن
العمل في مؤسسات الدولة له طاقة استيعابية قد يؤدي تجاوزها إلى عواقب اقتصادية
سيئة الأثر على اقتصاد الدولة.
وفي نفس الوقت فقد وجه جلالته رسالة لرجال الأعمال بأن يراعوا حق الوطن الذي أعطاهم الشيء الكثير، وكان سبباً مهماً في ما وصلوا إليه، فهو يدعوهم لمساهمة أكثر فاعلية من خلال إعادة النظر في كثير من السياسات الاقتصادية كنظام الأجور، وأسعار السلع والخدمات، ووضع الثقة في الشباب العماني من خلال تبنيه وتدريبه وتأهيله وتطوير قدراته.
كما أن في خطابه – حفظه الله – رسالة تطمين للمستثمر الخارجي بأن
الدولة تضع القطاع الخاص نصب عينها في عملية التنمية الشاملة، وتوفر كافة الفرص
التي تضمن نجاحه ومساهمته الفاعلة، لذا فإن الباب مفتوح للمستثمر الجاد كي يشارك
في دفع عجلة الاقتصاد المحلي.
وفي المحور
الرابع يولي جلالته حفظه الله اهتماماً متوالياً لا متناهي بالعملية التعليمية
وأهمية تطويرها وتحديثها بما يتوافق وظروف العصر، وهو اهتمام بدأ منذ أول يوم تسلم فيه جلالته أبقاه الله مقاليد الحكم في
عمان "أيها المواطنون.. لقد كان التعليم أهم ما يشغل بالي وأنا أراقب تدهور
الأمور من داخل بيتي الصغير في صلالة، فلما أذن الله بالخلاص من سياسة الباب
المغلق كان لنا جهاد، وكان لنا في ميدان التعليم حملة بدأت للوهلة الأولى وكأنها
تهافت الظمآن على الماء.."، وتوالت بعدها الخطابات التي تحث على أهمية الاهتمام بهذه العملية، بحيث لا
تكاد تمر مناسبة وطنية دون أن يتطرق جلالته إلى هذا الملف المهم ومنها (..فالمهم
هو التعليم ولو تحت ظل الشجر)، وتطورت ظلال الشجر بمرور الوقت إلى أن أصبحت مؤسسات
تعليمية تنافس المدارس العالمية المختلفة في الإمكانات التعليمية المتكاملة.
حيث أشار جلالته إلى أهمية التعليم في عملية
التنمية الشاملة، وذلك من خلال دوره في إعداد القوى العاملة الوطنية المدربة
والمؤهلة للمساهمة في عملية التنمية، وما يتطلبه ذلك من اهتمام بجودة المخرجات
التعليمية وفق الأهداف المرجوة، وبما يتماشى مع سياسة الدولة في هذا المجال.
كما أكد - حفظه
الله - على ضرورة مواكبة الأنظمة والمناهج والبرامج التدريبية والتأهيلية مع
المتغيرات المتسارعة والتقدم العلمي والتطور الحضاري، بحيث تؤدي إلى إيجاد مخرجات
تعليم مسلحة بالوعي والمعرفة، ومتوافقة مع متطلبات سوق العمل، وذلك من خلال مراجعة
السياسات والبرامج والخطط التطويرية الخاصة بالعملية التعليمية.
وأشار جلالته
في خطابه كذلك إلى الدور المهم الذي سيقوم به مجلس التعليم في النهوض بالقطاع
التعليمي، وأهمية التعاون الفاعل والمثمر لكافة الجهات مع هذا المجلس في سبيل
تحقيق الأهداف التي أنشئ من أجلها.
ودعا – أيده
الله – مجلس عمان بغرفتيه إلى تقديم الرؤى والأفكار التي من شأنها المساهمة في
تطوير العملية التعليمية والنهوض بها، من منطلق إيمانه حفظه الله بأهمية المشاركة
المجتمعية كون أن العملية التعليمية هي شأن يهم كافة أطياف المجتمع، ولا يمكن قصر
الاهتمام بها على جهة أو مؤسسة بعينها، لذا فإن على مجلس عمان عبء مهم في تحمل
المسئولية والمشاركة في عملية تقييم ومراجعة وتطوير العملية التعليمية من خلال
تقديم المقترحات والرؤى وسن وتعديل بعض القوانين واللوائح التي من شأنها النهوض
بهذه العملية.
وفي المحور الأخير يذكـﱢر جلالته بالملامح العامة للسياسة الداخلية،
وهي سياسة قائمة على العمل البناء لما فيه صالح الوطن والمواطن، المحافظة على
الهوية والثوابت والقيم الأصيلة المنبثقة من تراثنا العربي والإسلامي، وهنا يؤكد –
رعاه الله – كما في كثير من خطاباته
السابقة، على قضية الهوية الوطنية وأهمية تعزيزها في ظل التسارع المعلوماتي الهائل
وتحديات العولمة الخطيرة، وهي رسالة واضحة المغزى للجهات التي يقع عليها عبء هذا
العمل من أجل تبني إستراتيجية واضحة مشتركة تهدف إلى تعزيز الهوية العمانية من
خلال برامج دينية وتربوية وثقافية وإعلامية واجتماعية تحقق هذا الهدف.
أما
في مجال السياسة الخارجية فيؤكد جلالته على موقف السلطنة الثابت القائم على أساس
الدعوة إلى السلام والوئام والتعاون الوثيق بين سائر الأمم، والالتزام بمبادئ الحق
والعدل والإنصاف، وعدم التدخل في الشئون الداخلية للغير، وفض المنازعات بالطرق
السلمية. وهي سياسة انتهجها أيده
الله مند الأيام الأولى لتوليه مقاليد
الحكم انطلاقاً من حقيقة أن عمليات البناء والتنمية الوطنية وتشييد الدولة العصرية
يتطلب توفير مقومات ضرورية في مقدمتها المناخ المواتي لذلك محلياً وإقليمياً
ودولياً باعتبار أن السلام كل لا يتجزأ.
وهذه السياسة أكسبت السلطنة كثيراً من
الاحترام والتقدير في مختلف المحافل الدولية، وبسببها أصبح المواطن العماني محل
تقدير أينما حط رحله، وانعكست إيجاباً كذلك على الأوضاع الأمنية في البلد، لذا
فليس أمراً غريباً أن يحصل جلالته على كثير من الألقاب الفخرية كـ"حكيم
العرب"، أو أن يتم منحه عدداً من الجوائز المتعلقة بالسلام والتسامح الدولي كجـائزة السلام الدولية الأمريكية، وجائزة السلام
من الجمعية الدولية الروسية، وما (جائزة السلطان قابوس
لصون البيئة)، وموسوعة السلطان قابوس للأسماء العربية،
ووردة السلطان قابوس، والكراسي العلمية لصاحب الجلالة السلطان المعظم، وتخصيص
اليخت السلطاني (فلك السلامة) مع كل طاقمه لتستخدمه اليونسكو في
اكتشاف طريق الحرير، سوى جزء يسير من مساهمات جلالته المتعددة على المستوى
الإنساني الدولي.
وفي
إشارة جلالته إلى ملامح السياسة الخارجية فإنه يوجه رسالة للمجتمع الدولي يؤكد من
خلالها على أن الموقف العماني موقف ثابت لا يتغير من القضايا الدولية، لذا فعلى
البعض ألا يطالب السلطنة بأدوار تتنافى مع ثوابت هذه السياسة، وأن السلطنة ستظل
كعادتها راعية للسلام، مؤيدة للحقوق المشروعة، غير متدخلة في الشئون الداخلية
لغيرها من الدول، مهتمة بحل المشاكل والقضايا الخارجية عن طريق الشرعية الدولية لا
غيرها.