إبريل 2008.. كنت قد انتقلت للإقامة في
شقّة تقع في شارع جسر السويس، قريبة من شقّتي السابقة المطّلة على حديقة الميرلاند
بشارع نهرو المجاور، وإن كان الأخير محسوباً على مصر الجديدة! وما أدراك ما مصر
الجديدة! وآه من مصر الجديدة! في مصر يمكن أن يفصل شارعٌ واحد بين حيّين متجاورين
لكن كلّ منهما يعبّر عن مستوى اجتماعيّ واقتصاديّ وفكريّ مختلف تماماً! وعادي أن
تجد كليو (البرتقان) بجنيهين على هذا الرصيف وبخمسة على الرصيف المجاور مع أنّه
نفس البرتقال!
ما جعلني أصرّ على الانتقال للشقّة الجديدة برغم ثقل دمّ وكيلها
وتردّده شبه اليومي عليها بسبب أو بدونه وكأنّه قد غرس مسماراً بها هو موقعها
الوسيط بين أماكن أحبّها فهي تتوسّط المسافة بين ميدان روكسي من جهة حيث تسكّعي
كلّ مساء، وبين ميدان النعام، وشارع سليم الأول، وقصر الطاهرة، ومحطة مترو سرايا
القبّة حيث الهرب من (تناحة) أصحاب التكاسي في مشواري الأزليّ إلى وسط البلد،
ومقاهي وسط البلد، وسينمات وسط البلد، وفاترينات وسط البلد، وكلّ شيء جميل في وسط
البلد! كما أنّها على مسافة (فركة كعب) من بوّابة كلّيّتي من ناحية جسر السويس، إضافة
إلى توافر أشياء مهمّة أحرص عليها في كل مرة أقرّر السكنى فيها، من أوّل مقهى
البنّ البرازيلي حيث ألذّ عصير موز يمكن أن تشربه، إلى محل أولاد رجب وذكريات
الفراخ بانيه رفيقة العشاء المنزلي حيث أولى خطواتي في عالم الطبخ، إلى المخبز
الصغير أسفل البناية حيث العيش الفينو السّاخن، ومعمول عجوة التمر الشهيّ الذي لا
يحلو لي شراؤه سوى بعد الواحدة ليلاً حيث يكون قد خرج من فرنه واستوى، إلى حاتي
(الحرّيف) وروائح مشاويه الشهيّة التي تدغدغ خياشيمي مع كل رحلة ذهاب وإيّاب من
وإلى الشقّة!
كنّا في إبريل حيث الدنيا ربيع والجو بديع
على رأي المرحومة سعاد حسني، وأنا عاشق لإبريل مصر كما أعشق خريف اسطنبول، وشتاء مسقط،
وصيف بونشاك. كان الليل قد تجاوز منتصفه، وما أحلى ليالي الربيع على البلكونة
وأنيسة سهري تبوحني جديدها وقديمها كعادتها كلّ أمسية بعد أن تفرّق الأحباب ومضى
كلّ في طريق! كنت أتنقّل مع مؤشّرها كتنقّل تلميذ مجتهد مع أسئلة اختبار نهائيّ
حاسم، فمرّة مع إذاعة الأغاني من القاهرة وشعارها الأزليّ "قليل من الكلام..
كثير من الطرب"، وتارة مع إذاعة القرآن الكريم وصوت ملائكيّ ينبعث من حناجر
نادرة ذهبت بذهاب أصحابها، وثالثة مع حكاوي ألف ليلة وليلة للرائع طاهر أبو فاشا،
وبقيّة الوقت أقضيه مع تمثيليّات وبرامج تعود إلى زمن الفنّ الجميل قبل أن يتلوّث
بفضلات العولمة، وقبل أن يختلط الحابل بالنّابل، وتطفو على السطح كائنات طفيليّة
علاقتها بالإبداع كعلاقتي بنظريّة الصاروخ!
من إذاعة الشرق الأوسط يأتي صوته من بعيد،
عذباً فخيماً يتسلّل إلى القلوب كابتسامة طفلة، يدغدغ المشاعر كريحِ صباً هبّت
فجأة وسط أتون صيف العامرات، يلامس الوجدان كنصيحة أمٍ اختصرت العالم كلّه في
ابنها:
مولاي إنّي ببابك قَد بَسطتُ يَدي.. مَن لي ألوذ به إلاك يا سَندي؟
أقُوم بالليّل والأسّحار سَاجيةٌ.. أدعُو وهمسُ
دعائي.. بالدموع نَدي
بنُور وجهك إني عائذ وجل.. ومن يعُذ بك لَن يَشقى إلى الأبدِ
أيّ صوت ملائكيّ هذا الذي يرفرف! وأيّ
حنجرة ذهبيّة تلك التي تخرج كل هذه الطاقة من النور! إنّه (سيّد النقشبنديّ) أستاذ
المدّاحين وكبيرهم، أذربيجانيّ الأصل، مصريّ الطينة والنشأة والتشكيل، صاحب
الثماني طبقات، ابن الدقهليّة الذي استهواه مقام السيّد البدوي فعاش بقيّة حياته
قريباً منه، ولا عجب فمثله لا يمكن أن يجد مكاناً للعيش أفضل من طنطا حيث
روحانيّات العارف بالله أحمد البدوي، أو (شيخ العرب) كما يطلق عليه تهفهف على
المكان!
لم
أشعر إلا وأشعّة الصباح تخترق نافذة غرفتي، وما دام الصباح قد حلّ فلا نوم، وغداً
الخميس حيث لا يوجد التزام دراسيّ لديّ. ما الحلّ إذاً؟! وماذا أفعل ببقايا شجو
النقشبنديّ التي طبقت على روحي بحيث لا تكاد تفارقها! لا حل سواه، مادامت روح
النقشبنديّ قد نادتني فلأذهب إليها. إلى طنطا، وبالتحديد إلى جامعها الأحمديّ،
قبلة الزوّار والمريدين، ومهوى كثير من النفوس الحائرة.
إلى محطّة مصر برمسيس حالياً و(باب الحديد)
سابقاً أوجّه رحالي، حيث آلاف البشر يغدون ويروحون، وحيث تبدأ رحلة وتنتهي أخرى، وحيث
العابرون والتائهون والغرباء، وحيث الوجوه التي تراها لمرّة واحدة فقط وتنساها بعد
ذلك وكأنّها تذكرة سينما تنتهي صلاحيتها بانتهاء عرض الفيلم!
أستقلُّ مقعداً في الدرجة الثانية بالقطار الإسباني كعادتي في كلّ رحلة،
وكنت كعادتي كذلك قد تزوّدت بمجموعة من الصحف تكفي لتوزيعها على سكّان دولة
كالصّين، وكعادتي أيضاً كما في كلّ مرة طلبت كوباً من الشاي الأخضر الذي لن تشرب مثله
في مكان آخر، ورغيفاً من عيش الفينو المحشوّ بالجبنة الرومي، معتمداً في قضاء
الوقت المتبقّي على الوصول في الاستمتاع بمنظر الريف الأخضر المحيط تارة، ومطالعة
عناوين الصحف تارة أخرى مؤجّلاً قراءة معظمها لجولة أخرى تنتظرني في أحد مقاهي
طنطا التي استقبلتني بعد حوالي ساعة وربع بروحانيّة وعبق بخور مساجدها، ونفحات أولياءها
الصالحين وما أكثرهم! ليست المرّة الأولى التي أزور فيها طنطا واسطة عقد الدلتا وعاصمتها وملتقى طرقها، ومدينة (البدوى)
كما يطلق عليها، فكثيراً ما توقّفت
بها لشراء شيء من (حلاوة المولد) التي تشتهر بها وبالأخص محلات البشبيشي، أو
لأتذوّق بعضاً من الحمّص والمشبّك والهريسة والسمسميّة وأنا
في طريقي إلى الإسكندريّة، كما زرتها مرّة لغرض علميّ في جامعتها، وأخرى وأنا
متّجه إلى المنصورة لزيارة كوكب الشرق في مقهاها الذي يقع بالقرب من المحطّة
القديمة، وشرب الشاي عصراً في جزيرة الورد، وكثيراً ما تجوّلت في شوارعها الرئيسة
كالبحر، والجلاء، والنحّاس،
وسعيد وشارع المديرية، وجلست مرّة
أحتسي (العنّاب) في مقهاها النوبيّ، ورابعة لزيارة أسرة أحد معارفي في (بسيون)
القريبة منها، يومها اشتريت عسلاً كأنّه الشّهد المصفّى! كان عسل برسيمٍ ابتعته من
أحد الفلاحين في كفرٍ صغيرٍ يتبع بسيون لم أجد للذّته شبيهاً، عسلٌ تبكي من فرط
لذّته قبل أن تذوقه، وتبكي مرّة أخرى بعدها خوفاً من نفاده!
أخرج من محطّة طنطا متأملاً الميدان
المحيط، ثم أستفتح يومي بطبق هريسة من محلّ (أولاد رزق) القريب، لأستدير في طريقي
إلى شارع السكّة الحديد الذي أواصل السير فيه متأملاً حركة الجماد والبشر وهي
العادة التي أمارسها مليون مرّة كل يوم كسجين أشغال شاقّة حكم عليه بتكسير حجارة
جبل صلد، قبل أن أنتقل إلى محطّتي الأخيرة في شارع محمود علي البنّا أحد الشوارع المحيطة بالمسجد الأحمدى..
أمّا ما حدث بعد ذلك فتلك حكاية أخرى!