كان الساعة تقترب من الثالثة عصراً عندما كنت أتطلّع إلى
اللوحة البانوراميّة الجميلة الماثلة أمام عينيّ والتي تجسّد خليج القرن الذهبيّ
بكل ما يحيط به من جسور، وجوامع، وأسواق،
وقصور، وغيرها من مفردات الحضارة المختلفة التي تعاقبت على صناعتها دول عدّة كان
لكل منها نمطها وخصوصيّتها الثقافيّة المتفرّدة، وكان الخيار أمامي هو سلوك أحد
جسرين: أتاتورك، أو جلطا، ولكل معالمه ومناطقه التي يؤدّي إليها، وكل بحاجة إلى
فسحة من الوقت الكافي للتعرّف على ما تحويه تلك المناطق التي يصل إليها.
كان جسر أتاتورك هو الأقرب بالنسبة لموقعي الجغرافي الذي
كنت أقف عليه، كما أنّني رغبت في أن أخصّص يوماً كاملا لمنطقة جلطا ابتداء ببرجها
الشّهير، وانتهاء بجسرها الأشهر، مروراً بشوارعها الضيّقة المرصوفة بالحجارة،
ومطاعم السمك التي تشتهر بها، والوقت الحالي لن يسمح لي بذلك خاصّة وأنّه لم تتبقّ
سوى بضعة سويعات عن حلول الظّلام!
كنت حتّى هذه اللحظة لم أدخل أيّاً من الجوامع
الإسلاميّة الشهيرة على كثرتها في اسطنبول، والتي يطلقون عليها لقب (كامي) تحريفاً
من اللفظة العربيّة (جامع)، كما أنّني لم أجرّب بعد المطعم التركيّ بتفاصيله
الغنيّة إلا إذا كنّا سنعتبر أن المطاعم والمقاهي التي تحمل أسماء تركيّة لدينا
تنتمي تجاوزاً إلى ذات المطبخ، وهو أمر ثبت لي عدم دقّته في نهاية رحلتي، لذا
استقر رأيي على الذهاب إلى منطقة السلطان أيوب لأداء صلاة العصر في جامعها الشّهير
وتناول وجبة الغداء في أحد مطاعمها التقليديّة التي تزدان بها.
أهبط بضعة درجات تفصلني عن المكان الذي كنت أقف فيه في
تلك الشرفة الخضراء من شارع (بيوغلو) في طريقي نحو الجسر. في معظم جولاتي في أزقّة
وحواري الجزء الأوروبّي من المدينة اكتشفت
أنها في الأساس بنيت على تلال ومرتفعات غير منبسطة، لذا تأخذك الدّهشة وأنت ترى
الشوارع المرصوفة بالحجارة والإسفلت بانحناءاتها وانحداراتها، ويصيبك الذهول وأنت
تتساءل في كلّ مرة تدخل فيها إحدى محطّات المترو: كيف أقاموا كل هذا أسفل أراض
جبليّة! وكيف شقّوا كل هذه المساحات!!
أصل إلى مدخل الجسر الذي يخترق خليج القرن الذهبي، كان
الجوّ يميل إلى البرودة، ولكن الإحساس العام هو الشعور بالدفء، كيف لا والجسر
مزدحم على طول مساره بالعشرات من كبار السن، والشباب، والصغار ممّن أتوا لممارسة
هواية الصّيد تحيط بهم أباريق الشاي والقهوة، ويمرّ عليهم عدد من باعة المكسّرات
والحلويّات وسط جوّ حميميّ رائع من تبادل الأحاديث الودّيّة، والنكت، والسباب
المغلّف بالضحك والمزاح.
وأنا
أواصل مسيري على الرصيف الأيسر للجسر أتأمل الخليج الشهير الذي يحيط به، والذي يشطر
القسم الأوروبي إلى قسمين على طول سبعة كيلو مترات بجسوره الثلاثة، ومعالمه
المتنوّعة التي تحيط به، متخيّلاً السلطان محمد الفاتح وهو يحاصر( آيا صوفيا ) وما
حولها بعد أن نقل حوالي 65 سفينة من مرساها في (بشكتاش) عبر جبال جلطا من خلال
ألواح خشبيّة طليت بالزيت والشّحم، ومن هذا الخليج انطلقت تلك السفن في عمليّة
ليليّة بعيدة عن أنظار البيزنطيين لتحاصر المدينة وتدكّ حامياتها معلنة فتح
المدينة وتغيير اسمها إلى (اسلام بول) أو مدينة الإسلام.
أصل
إلى نهاية الجسر، لأنعطف يميناً مع اللائحة التي تشير ناحية منطقة أيّوب، أكثر
اللوائح مكتوبة باللغتين الانجليزيّة والتركيّة، ويمكن بسهولة التعرّف على الأماكن
التي تشير إليها خاصّة وأن كثير من أسماء المعالم التركيّة المختلفة هي في الأصل
عربيّة مع تغيير في نطق بعض الحروف، كما أنّ السائح العربي يجد الكثير من
المعلومات باللغة العربيّة خاصّة في الأماكن الأثريّة الإسلاميّة كالجوامع،
والمساجد، والمدارس، والأسواق، وغيرها.
أدخل
منطقة السلطان أيوب فأنبهر ممّا تحويه من معالم إسلاميّة متنوّعة وكأنّني في متحف
إسلامي مفتوح لا في حيّ سكنيّ عام فأحواض الماء، والسبل، والحمامات الأثريّة، والجوامع،
والخانات، والأضرحة كانت تشكل معظم مفردات المكان الذي تعود سبب شهرته إلى وجود أحد
أشهر الجوامع المقدّسة في اسطنبول وهو جامع
الصحابي أبو أيوب الأنصاري الذي استشهد عند محاصرة العرب المسلمين للمدينة
زمن معاوية، والذي يعدّ كثير من الأتراك جامعه رابع الأماكن الإسلامية المقدسة بعد
البيت الحرام، والجامع النّبوي، وبيت المقدس، لذا فمن شدّة تقديس الأتراك لهذا
الجامع أنّهم كانوا يقيمون فيه مراسم تقليد السيف للسلاطين الجدد، كما أن من بين
العادات المرتبطة به جلب الأولاد لزيارة الجامع وضريحه قبل إجراء الطهارة لهم، عدا
أن العديد من الشخصيّات السياسيّة والاجتماعيّة والفكريّة ذكوراً وإناثاً كانوا
يوصون بدفنهم هنا تبرّكاً بوجود ضريح الصحابي الجليل، وهذا ما يفسّر كثرة الأضرحة
والقبور التي تقع في محيط الجامع.
لبناء
الجامع قصة مثيرة، حيث تقول الروايات أن محمد الثاني عندما فتح القسطنطينيّة عام
1453 رأى أستاذه في منامه مكان ضريح أبي أيّوب، فأمر السلطان بالتحرّي عنه والعثور
على القبر الذي دفن فيه، ومن ثمّ تم تشييد الجامع وتوالت عمليّات توسعته وترميمه
طوال السنوات اللاحقة.
كان
صحن الجامع عند اقترابي من بوّابته الضخمة مليئاً بالعشرات من السيّاح وأبناء
الحيّ الذين أتوا بأطفالهم للتبرّك، أو لطلب الدعاء، أو لأداء صلاة العصر التي حان
وقتها، أدخل باحته الداخليّة المستطيلة منبهراً بالزخارف، والنقوش، والآيات
القرآنيّة التي خطّت على جوانبه بأسلوب فنّيّ بديع يدل على مدى الرقيّ والابداع
الذي وصلت إليه الحضارة الإسلاميّة، وهي سمة سألاحظها فيما بعد في كل الجوامع
والمساجد التي سأقوم بزيارتها مخلّفة لديّ عشرات التساؤلات حول الامكانات الفنيّة
(المذهلة) التي كان يتمتّع بها مهندسو وفنانو تلك العصور!
أؤدي
صلاة العصر مع جماعة صغيرة من الأتراك، ثم أدخل ضريح الصّحابيّ الجليل فأجده
مزيّناً بالخزف ذو اللونين الأزرق والأبيض الذي مازال يحتفظ برونقه وأناقته رغم
مرور عشرات السنين على تركيبه، بينما أحيط القبر بقفص من الفضّة الخالصة، وبجواري
عدّة مرشدين يشرحوا للأفواج المرافقة لهم تاريخ الجامع، ونبذة من حياة أبي أيوب الأنصاري.
أغادر
الجامع في طريقي لاكتشاف ما تبقّى من معالم الحيّ، وفي طريقي أجرّب أن أشرب من أحد
سبل الماء المتناثرة على طول السور الأثري المحيط بالجامع كعادة عثمانيّة قديمة
لدى السلاطين وحاشياتهم، وأرباب الدولة وكبار رجالها الذين كانوا يعتنون بإقامة
مثل هذه المشروعات الخيريّة والانفاق عليها بحيث تبدو كتحف معماريّة جميلة، فينزل
الماء بارداً عذباً زلالاً، يشجّعني ذلك على أن أغسل وجهي ومرفقي، وأرشّ بعض الماء
على رأسي في محاولة لاجتلاب مزيد من الانتعاش، فالوجهة القادمة بحاجة إلى مزيد من
اللياقة والتحمّل، كيف لا وأنا أقصد الذهاب إلى مقهى (الستّ رابعة)، أو (بيرلوتّي)
بعد أن تغيّر مسمّاه بعد ذلك، والذي يقع على تلّة مرتفعة تطلّ على خليج القرن
الذهبي، وتبعد حوالي عشر دقائق عن الجامع.
أمّا
ما هي حكاية ذلك المقهى الشّهير، ولماذا تم تغيير مسمّاه، ومن هو بيرلوتّي هذا فهذا
حديث أؤجّله للمقال القادم.