عندما قرّرت قضاء بضعة
أيّام للنقاهة بعد انهاك سنة متواصلة ما بين العمل والتدريس ومشاغل أخرى متفرّقة
كان السفر إلى الخارج هو الأولويّة التي اخترتها لولا أنّ جدول التدريس الصيفيّ لم
يسمح لي بفسحة طويلة من الوقت فكان الخيار الجاهز هو الذهاب إلى أرض الجنوب، حيث كلّ
شيء أخضر..حتى القلوب.
وعلي الرّغم من أنني قد زرت
ظفار من قبل أكثر من مرّة، وعلى الرغم من انبهاري بأشياء كثيرة جميلة بها في كلّ
مرّة إلا أنّني كحال كثيرين غيري ننسى أو نتناسى كل ذلك البذخ والجمال التي تحبى
به هذه (الجنّة) الأرضيّة، وتسيطر علينا عقدة (الخواجة)، ويكون التفكير في السّفر
إلى الخارج هو همّنا مبرّرين ذلك بأسباب قد يكون بعضها حقيقيّاً، والبعض الآخر من
صنع أوهامنا كالخدمات، وأماكن السّكن المناسبة، ووسائل النّقل، والترفيه، وغيرها.
عندما هبطت الطائرة في مطار
صلالة الجديد كان انبهاري الأوّل في هذه الزيارة، حيث وبالاضافة إلى اعجابي
بالتّحفة المعماريّة الرائعة المتمثّلة في مرافق المطار فإنّ انتظاري لم يدم سوى
لدقائق أخذت بعدها حقائبي مغادراً المطار الجميل لتبدأ أولى عناوين موسوعة الكرم
الظّفاري في استقبالي متمثّلة في زخّات المطر الخفيفة التي يبدو أنّها كانت
تنتظرني لتزيل شيئاً من بقايا العرق الذي خلّفه حرّ العامرات والذي تضرب به
الأمثلة، وتسير بذكره الرّكبان، وهي موسوعة ظللت أتنقّل بين فصولها طوال فترة
إقامتي القصيرة في المحافظة، وليتها لم تنته!
وبينما أغادر بوّابة
(التّحفة) كان (أبو سالم) وهو شابّ جعلانيّ سمح المحيّا، بشوش الطّلّة في انتظاري بابتسامته
الودودة التي افتقدتها منذ أسبوعين كاملين، وهي مدّة طويلة لم أعتدها كونه زميل
عمل، وصديق حياة، ورفيق جلسة، كي يأخذني لا إلى مقرّ السّكن، ولكن إلى بيتهم
العامر كي ألتقي بوالده وإخوته الكرام، فكان اللقاء الحميميّ الذي بدّد شيئاً من
وحشة مفارقة الأهل بالرغم من أنّنا في وطن واحد متوحّد. على الرغم من أنّ حمد
الصوّاعيّ وأسرته يسكنون صلالة منذ فترة طويلة إلا أنّ بيتهم يكاد يكون قبلة لكثير
من الأهل والأصدقاء والأقارب والمعارف الزائرين لصلالة، ولا يكاد مجلسهم يخلو من
ضيف داخل أو خارج، ولا يكادون يسمعون بأحد يحتاج لخدمة ما أو يتعرّض لمأزق معيّن
إلا ويكونون أول الناس تقديماً للعون والمساعدة دون منّة أو مباهاة.
في ظفار وجدت أشياء كثيرة
جميلة ورائعة: وجدت همّة العمانيّ حكومة وأفراداً في أن يجعلوا من المحافظة جميلة
نظيفة متطوّرة مواكبة لمدن العالم السياحيّة، فالعمران في كلّ مكان، والمنشئات
السياحيّة والاقتصاديّة والترفيهيّة تتضاعف كلّ عام، وعمّال النظافة في كلّ بقعة
حتّى فوق مستوى الغيم، ورجال الشرطة البواسل يتحدّون كلّ الظروف من أجل توفير
الأمن والأمان للزائر والمقيم.
في ظفار وجدت بقاع العالم
الجميلة كلّها على موعد لقاء وسط ربوعها، فعلى سفوح دربات وطوي عتير ومدينة الحقّ
تخيّلت مشهد الريف الأوروبّيّ الذي يتحفنا البعض بتصويره عبر صفحاتهم على مواقع
التّواصل الاجتماعي، ولن أنسى ما حييت وأنا جالس على تلك الشرفة التي تطلّ على
دربات منظر السّهل الأخضر الممتد بينما (نهير) صغير يجري وسطه، ولم يتبقّ سوى بضعة
أكواخ هنا وهناك كي يكتمل المشهد. وفي ايتين تذكّرت سهول وجبال شيانغماي
التايلانديّة، وعند مزارع النارجيل وأكشاك بيع المشلي تخيّلت جنوب الهند وسريلانكا
حيث البحر، وحيث أشجار النارجيل الباسقة، وحيث الهنود بلباسهم التقليديّ، وتأسّفت
كثيراً على (الألوف) التي ضيّعتها برفقة العائلة في آخر رحلة لتايلند، وحمدت الله
أنّني غيّرت قرار السّفر إلى جنوب آسيا في آخر لحظة، فما رأيته هنا كان أجمل
بكثير، وما لم أره سيكون بالتأكيد أكثر جمالاً وروعة.
في ظفار وجدت البساطة
والكرم وطيبة النّفس والقناعة متجسّدة في تصرّفات الكثير من أبناء المحافظة
والمقيمين بها، وكأنّهم اقتبسوا هذه الصّفات من أهلها، ففي الفندق اللطيف الذي
نزلت به كانت الابتسامات تلاحقني عند دخولي وخروجي، والناس في الشارع على استعداد
لتقديم أيّ عون ترغبه، والشيخ سالم بن محمد الصوّاعي وأبناءه الكرام، ومحمّد غوّاص
وهو نموذج للشابّ الظفاريّ الأصيل كانوا حاضرين معي في كلّ لحظة، وكانت طلباتي
تجاب قبل أن أتحدّث بها، وكان يكفي الحديث عن أيّ شيء أرغب به أو أسأل عنه لأجد
السيارة جاهزة لأخذي إلى المكان المطلوب، أو لأجده بعد ذلك في غرفتي إن كنت أسأل
عن غرض ما حتّى لكدت أن أدّعي البكم كي لا أبدو ضيفاً ثقيلاً، وفي الوقت ذاته فقد
بهرني رخص الأسعار ومناسبتها في كل مكان أذهب إليه، فلكم أن تتخيّلوا أنّ أماكن
خرافيّة ساحرة كالمقاهي التي في أحضان الضباب والتي يمكن أن يدفع المرء ما يشاء من
النقود كي يدخلها ليستمتع بالجلوس في إحدى شرفاتها، أنّ حساب طاولة بأكملها لا
يتجاوز ثمن كوب عصير في أحد مقاهي المدن الأخرى، ولكم أن تتخيّلوا كذلك أنّ ثمن
وجبة غداء كاملة في أحد المطاعم المتوسّطة لا تتجاوز الريال، وقيسوا على ذلك محلات
الملابس والهدايا والكماليّات وغيرها، حتّى لكدت أصرخ في وجه أحد مرافقي: ألا يعلم
هؤلاء القوم أننا في موسم سياحيّ، وأن الأسعار في كثير من المدن السياحيّة تتضاعف
كثيراً، فما بال أسعار هؤلاء القوم هكذا!! إنّها البساطة والقناعة التي مازال
سكّان هذه البقعة الاستثنائيّة يحتفظون بمفرداتها حتى الآن!
في ظفار أعدت الاستمتاع
بالفن الجميل الذي افتقدته منذ زمن وسط (هوجة) ما يعرف بالأغاني الشبابيّة، ولأنّ
أبا سالم كان يعرف ذوقي جيّداً، ويعرف مطلوبي كذلك، فقد استعدّ ببضعة اسطوانات لمسلّم
علي عبد الكريم، وأحمد مبارك غديّر، وسالم علي سعيد، وآخرين، ولكم أن تتخيّلوا
حالتي أنا المنهك نفسيّاً، المتوتّر عصبيّاً من جرّاء الحرّ، والرطوبة، وزحمة
الشوارع، وطول ساعات العمل اليوميّة هنا وهناك، وأنا أستمع إلى مسلّم علي وهو
يشدو: (ساعة مرّت بي زمان..والعين لك تشتكي..يا ساكن الدار متى الحبيب يجي)، بينما
أنا فوق الغيم، والضباب يحيط بي، ونسمات الهواء الباردة تتسلّل إلى السيّارة من
هنا وهناك. وقتها لم أتمالك نفسي، وصرخت بلا شعور: أين أنا بالضبط!! ووقتها فقط
عرفت لماذا كل هذا الكمّ من الابداع الذي ينبعث من أعمال هؤلاء! ولماذا تتكرّر
كلمات كالغيوم والخضرة والخريف والجمال والندى في أغنياتهم، ولماذا أشعر
بابتسامتهم وثغرهم المفتوح وهم يغنّون! بالتأكيد فمن يعيش في أجواء كهذه لا يمكنه
إلا أن يبتسم طوال الوقت.
في ظفار عرفت معنى التّكافل
الاجتماعيّ الذي نادى به الاسلام على حقيقته، وعلى أن تكون جزءاً مهمّاً من
المجتمع، متفاعلاً مع قضاياه، سنداً للآخرين، ولعل أمراً كهذا يظهر في كثير من
المناسبات لعل من بينها ما يحدث في الأفراح عندما يبادر كثير من الأشخاص بتقديم
بعض المبالغ أو التكفّل بتوفير بعض المستلزمات كلّ على قدر استطاعته مساعدة منهم
للعريس على تحمّل تكاليف زواجه كعادة ظفاريّة أصيلة، حتّى ليكاد بعض الشّباب لا
يدفعون ريالاً من جيوبهم تجاه تلك المصاريف وهو الأمر الذي يتكرّر في حالات
العزاء، أو حاجة البعض للعلاج، أو لمعاونة بعض الحالات الاجتماعية كالأرامل
والأيتام والعجزة فاقدي العمل وغيرها من الحالات، وأمر جميل كهذا لا يقتصر على
الموسرين فقط، بل يتعدّاه للآخرين، بل إنّ بعضهم يتسلّف أحياناً مقابل أن يساهم في
أمور مجتمعيّة جليلة كهذه! وموضوعات كهذه بحاجة إلى سلسلة مقالات كاملة لا بضعة
سطور هنا
في ظفار وجدت أشياء كثيرة
جميلة، ترسّخت قناعات، وتبدّلت أخرى، واقتنعت كما في كلّ مرّة أن هذه البقعة
الجميلة تغني عن السّفر إلى بقاع أخرى نتكبّد من أجلها الحال والمال، وأنّ كثيراً
مما يطلبه الفرد من مباهج الدنيا الحلال موجوده بها، فالأمن، والأمان، والسكن
المناسب، والجو المريح للأعصاب، ورخص الحياة، وقناعة الناس، وأشياء كثيرة لا تعد
كلها موجودة في هذا المكان. فقط هو الاقتناع وتبديل الصور النمطيّة الذهنيّة
المرسومة مسبقاً.
وإن كان هناك من شيء آلمني
ونغّص عليّ رحلتي فهو نفس الشيء الذي يؤلمني في كل زيارة لي لولايات السلطنة ألا
وهو إهمال البيوت الأثريّة، وكم كان أسفي بادياً وأنا أرى حارات كاملة وسط صلالة
ببيوتها الأثريّة التي تحكي تاريخ طويل مجيد من النشاط البشريّ الذي ميّز المنطقة
وهي تتحوّل إلى مأوى للعمالة الوافدة، وبعضها تهدّم أو يكاد!!
بينما أغادر أرض الأصالة
عائداً إلى العامرة مسقط كان صوت الجميل أحمد مبارك غديّر ينساب هادئا من طرف قريب
:هزّني الشوق لظفار الغالية.. للحبايب والزوامل والفنون.