في صبيحة كلّ يوم عمل، وبينما يقدّم لي جريدة الصّباح
اليوميّة يبادرني هاني بنفس السؤال الخالد: لماذا (الرؤية)دون غيرها؟أراها صغيرة الحجم مقارنة
بالبقيّة، فلماذا لا تطلب منّي أن أحضر لك الأخريات؟
أي هاني.. ربما لا تكون جريدتي المفضّلة هي الأكثر انتشاراً، وربّما لا تكون الأكثر في
عدد الصفحات، وربّما لا تحوي الملاحق (إيّاها) التي تحوي اعلانات تعيد الشيخ إلى
صباه، وتهبك فرصة الحصول على إكسير الشباب الخالد، وتمنح جسدك النضارة والنقاء،
وتخلّصك من كافّة الأمراض المستعصية وغير المستعصية، ومع ذلك أنا حريص على البحث
عنها صبيحة كلّ يوم، وقد أقيم الدنيا على رأسك لو لم تحضرها لي. هل تعلم لماذا كلّ
هذا؟ ما يعجبني في ( الرؤية ) أوّلاً هي الواقعيّة في الطرح، فلا عناوين مثيرة،
ولا تهويل في طرح القضايا والمواضيع، ولا ألوان حمراء هنا وهناك، ولا نفاق زائد عن
الحد.
يعجبني فيها كذلك
أنّها تحترم وقت القارئ، فلا (لتّ)، أو (عجن) للأخبار، ولا تكرار في
الأفكار. خذ معك الصفحة الرياضيّة على سبيل المثال هي صفحة واحدة ولكنها تختصر لك
كل ما تحويه عشرات الصفحات في ملاحق الصحف الأخرى، وقس على ذلك بقيّة الأبواب
والموضوعات.
يشدّني فيها أيضاً الحياد الصحفي والتوازن الكبير في عرض
الأخبار العربيّة والاقليميّة والعالميّة دون تحيّز لهذا الطرف أو ذاك، ودون توجيه
لفكر القارئ، فمادامت الجريدة لا تمثل جهة رسميّة أو حكوميّة أو حزبيّة أو نقابيّة، وما دامت جريدة خاصّة
فهي إذاً ملك القارئ لا ملك أصحابها، وإذا كان لمالكها أو رئيس تحريرها رأي فكري
أو سياسي خاص فليعبّر عنه في عموده اليوميّ أو الأسبوعيّ، وليعط للآخرين فرصة طرح
آرائهم حتّى لو اختلفوا معه، فهذه هي أبسط بديهيّات الصحافة، أمّا أن ترغم قارئك
على مسار فكريّ معيّن، أو أن تجبره على أن يكتب في نفس الاتجاه الذي تسير فيه، أو
أن تحاول توجيه فكره لمجرّد أنّك تميل للطرف هذا أو ذاك، أو لمجرّد أنّك تحبّ
الوجبة أو الأغنية هذه دون غيرها، فهذه من وجهة نظري هي قمّة الديكتاتوريّة في
الطرح الصحفي، حتّى لو تكفّلت ملاحقك التجارية بتحقيق المطلوب من انشائك لهذه
الصحيفة، وحتّى لو اقتنعت أنّ هناك من سيشتري صحيفتك لمجرّد كبر حجمها، أو عدد
أوراقها، أو احتوائها على إعلانات وظائف، أو اعلانات من النوع الذي يعيد الشيخ إلى
صباه.
مما يجعلني متلهّفاً عليها كذلك هما صفحتي المقالات
"رأي"، و"رؤى" اللتان أعتبرهما درّة تاج الجريدة، بمقالاتهما
المتنوّعة، والمتباينة، بحيث يمكن أن تجد مقالاً يؤيّد فكرة أو قصيّة ما، وبجواره
مقال آخر يعارض الفكرة تماماً، في جوّ من الحرّيّة الصحفيّة التامّة، والاحترام
الكبير لصاحب المقال وللمتلقّي كذلك، وهو أمر يصعب أن تجده في صحف خليجيّة وعربيّة
كثيرة يغلب عليها طابع الرأي الواحد.
يأسرني في (الرؤية) احترامها وتقديرها لكتّابها
والمنتسبين إليها، فبرغم البون الشاسع في الإمكانات المادّيّة مقارنة ببعض
المؤسسات الصحفيّة الأخرى، إلا أن كتّاب الرؤية لهم قيمتهم الكبيرة لدى أصحاب
المؤسسة، فعدا المكافئات الشهريّة التي تدفع لهم، فإنّه لا تكاد تمرّ مناسبة اجتماعيّة
ما دون دعوتهم لحفلات إفطار أو غداء أو تكريم، يلتقون فيها معاً، يجددون صداقاتهم،
ويناقشون أفكارهم ورؤاهم في جو أدبيّ واجتماعيّ نكاد نفتقده كثيراً في حياتنا
اليوميّة.
مّما يجعلني أرفع القبّعة كذلك لهذه المؤسّسة هي
مبادراتها الاقتصاديّة والاجتماعيّة والأدبيّة المتنوّعة، والتي هي بحاجة إلى
سلسلة مقالات قد لا توفيها حقّها، خذ لديك على سبيل المثال لا الحصر: منتدى الرؤية
الاقتصادي، جائزة الرؤية الاقتصادية، مبادرة "مركز الرؤية للشباب" لتعزيز
ثقافة ريادة الأعمال"، مكتبة السندباد المتنقلة للأطفال، دعم طباعة الكتب المتنوعة...ألخ.
ترى هل سمعت عن ( حاتم الطائي)؟ لا أقصد حاتم الطائي الذي درست سيرته في تاريخ
العرب القديم، والذي سمعت عن حكاياته الأسطورية في الكرم هنا وهناك، أقصد الأستاذ
حاتم بن حمد الطائي رئيس تحرير جريدة الرؤية. عموما لا اختلاف كبير بين الشخصيتين،
فهما من نفس القبيلة، ويحملان كثيراً من الجينات المتشابهة. الأستاذ حاتم الطائي
هو رجل أعمال، ولكنّه في نفس الوقت صحفي ناجح، وسينمائي بارع. يعني باختصار هو رجل
مثقّف وهنا مربط الفرس. أن تكون رئيس تحرير مثقّف خير من أن تكون رئيس تحرير غني
أو ذو واسطة، الأمران يختلفان تماماً لكل من درس الصحافة أو عمل بها، أو حتّى
يتابع خباياها بشكل مستمر . كان بإمكان الأستاذ حاتم أن يستثمر أمواله في عشرات
المشاريع التي قد تجلب الربح المضمون دون "دوخة رأس"، ولكنه اختار
الاستثمار في مجال يعلم جيداً أنّه سيعاني في سبيله الكثير، وسيبذل الأكثر، كل ذلك
مقابل الفكرة والرسالة والهدف الذي آمن به. أمثال الاستاذ حاتم يخلصون جدّاً
للفكرة التي آمنوا وحلموا بها منذ صغرهم، لذا ليس غريباً أن يكون مكوثهم في
مكاتبهم الصحفيّة أضعافها في صالوناتهم الوثيرة، وأن تكون رائحة أحبار الطباعة
أكثر شذى من روائح العطور الباريسيّة. لا يمكن لصحيفة أن تنجح ما لم يكن ورائها
رجل يقدّر بالفعل حجم المتاعب التي يمكن أن يجنيها من وراء رسالة صحيفته، وبالتالي
يمتلك النفس الطويل في الصبر والاستمرار، وهذا لن يتأتّى ما لم يكن هذا الرجل من
نفس (الكار)، أي أنّه تشرّب الصنعة، وعرف أسرارها، وهذا ما ينطبق على رئيس تحرير
(الرؤية).
هل تعرف (عبد الله خميس)؟ في زمن أصبح فيه كثير ممّن
يدّعون الثقافة والتنوّر يتعاملون مع الآخر بحسب توجّهاته الفكريّة، ويحوّلون
اختلاف الرؤى إلى خلافات شخصيّة، مقدمين المبدأ الذي يقول "إن لم تكن معي
فأنت ضدّي"، ولتذهب العبارة القائلة" اختلاف الرأي لا يفسد للودّ
قضيّة" إلى الجحيم، إلا أن عبد
الله خميس هو شخص آخر مغاير لهؤلاء
تماماً، فبالرغم من أنّه يحمل أفكاراً وتوجّهات قد تختلف مع كثيرين من كتّاب صفحة
"رؤى" التي يشرف على إعدادها(وهذا حقّه)، ومع أن بعضاً لا بأس به من
مقالات هؤلاء الكتّاب قد تتعارض مع قضايا يؤمن بها عبد الله، أو تحمل نقداً لها،
إلا أنّه لم يسع يوماً لكي يمارس ديكتاتوريّة معيّنة، أو أن يفرض رأياً أو أسلوباً
أحاديّاً يطغى على الصفحة، أو أن يستبدل كتّابها بآخرين يشاركونه نفس التوجّه
الفكري، بل على العكس تماماً، فهو خارج حدود الصّفحة قد يناقشك في آرائك وتوجّهاتك
حول قضيّة فكريّة ما حتى الصباح، وقد يختلف معك مليون درجة، ولكنّه مستعد أن يواجه
العالم بأكمله من أجل حقّك في نشر فكرتك كاملة دون أي تغيير أو تعديل، وقد يترك
الصحيفة نفسها فيما لو شطب حرف واحد من مقالك دون رغبتك، ولا تتعدى ملاحظاته أو
تدخّلاته إبداء رأي بشكل مهذّب في تغيير عنوان المقال إلى آخر أكثر تأثيراً أو
وضوحاً، أو حذف كلمة صيغت بشكل لغوي غير سليم. شخص كهذا هل يتكرر كثيراً في صحفنا
العربيّة؟
هل عرفت الآن لماذا أحرص على قراءة هذه الجريدة كل صباح؟