(ماذا لو..)
مسرح كبير أبطاله متعددون: رجل يصرخ "اعدموني أنا
وأولادي"، وامرأه تجمع علب المشروبات الفارغة لتبيعها وتسد بها رمقها، وطفل
يجوب المطاعم طلباً للمساعدة في إعالة أسرة كبيرة العدد، وشاب يفترش المساجد طلباً
لعلاج ابنته المريضة بالسرطان، وأم تبكي في برنامج صباحي شهير طالبة منزلاً يأوي
أيتامها، وخامس وسادس وعاشر.
الجمهور يتفاعل مع كل مشهد على حدة بقدر كبير من الحماس
والعاطفة، ثم يعود لإغفاءة قد تطول بانتظار المشهد اللاحق. هذا يدق صدره إظهاراً
لكرم حاتمي لحظي، وتسيل دموع الآخر إظهاراً لوطنية زائدة، ويجد فيها (المبرّراتية)
فرصة للموالسة والنفاق على اعتبار أن كل شيء تمام، وأن كل أولئك مدّعون ناكرون للجميل، بينما يسعى البعض لإثبات نظرية "فطريقك يا ولدي مسدود مسدود مسدود"،
على اعتبار أن كل جهود الحكومة وخططها
فاشلة، وكأننا نعيش في جبال المريخ، وليس في دولة عصرية حديثة انجازاتها تفوق
سلبيات أدائها بملايين السنين الضوئية، بينما بقية الجمهور القابعون في الصفوف
الخلفية تائهون بين هذا وذاك من منطلق "أخويا هايص وأنا لايص".
أنهار من الحبر تسيل حول أهمية الزكاة والصدقة والتكافل،
وتسجيلات تكتظ بها دواليب الاذاعة والتلفزيون تناقش الخطط المأمولة من الحكومة في
المرحلة القادمة، وتغريدات هنا وهناك تعلق على هذه المشاهد. وماذا بعد؟ لا شيء، ينسى
الجمهور كل شيء بانتهاء العرض بانتظار عروض أخرى قادمة قد تكون أكثر تشويقاً
وإثارة.
وكالعادة، كل ذلك يدور حول نتائج المشكلة، ولكنه لا
يقترب من أسبابها أو جذورها، وحتى الحلول التي تطرح هي حلول وهمية غير واقعية في
الغالب، فمع كل التقدير لكافة الجهود المجتمعية المبذولة في مجال العمل الخيري،
إلا أننا لا يمكن أن نعول عليها وحدها كحل لمواقف كهذه، كما أننا لا يمكن كذلك أن
نطالب الجميع أن يتمسك بالقيم والعادات والتقاليد والتكافل الاجتماعي، فهذه أشياء
لا تغرس بالكلام وحده، ولا يمكن أن نبني عليها حلولاً علمية.
دعونا
نتفق على أنه لا يوجد مجتمع فاضل، كما أنه لا توجد عدالة اجتماعية كاملة، ولكن
بشيء من الخطوات العلمية الجادة والمدروسة يمكن لنا أن نحقق بعضاً من ملامح هذه
العدالة، لن أتحدث عن دور التعليم والقيم والهويّة والمواطنة في هذا المجال، فذاك
حديث يطول، فقط سأكتفي ببعض الجوانب التي تلامس أطراف المشكلة، ويمكن لها أن تسهم
في الحد منها على الأقل، وخذ معك على سبيل المثال:
ماذا
لو فكّر برلماني مشاغب في قراءة المادة (12) من مواد النظام الأساسي والتي تنص إحدى فقراتها
على أنه "تكـفل الدولة للمواطن وأسرته المعونة في حـالة الطوارئ والمرض
والعجـز والشيخـوخـة، وفقـاً لنظـام الضمان الاجتماعي، وتعمل على تضامن المجتمع في
تحمل الأعباء الناجمة عن الكوارث والمحن العامة"، وتصدى لتعديل أحد القوانين المتعلقة
بالجوانب الاجتماعية التي تهم المواطن والتي أكل منها الدهر وشرب، ولم تعد تناسب
المرحلة الحالية، ولنفترض أنه قانون "الضمان الاجتماعي" على سبيل المثال،
ثم تبعه آخرون لتعديل أو سن بقية القوانين المنظّمة لهذا المجال.
ماذا لو كان لدينا مركز للمعلومات ودعم اتخاذ القرار، يقدم
المعلومات والبيانات والاحصاءات الكافية المتعلقة بالقضايا الاجتماعية المختلفة، من
خلال دراسات مسحية علمية محكمة واستطلاعات رأي يقوم بها باحثون متخصصون (وما
أكثرهم)، وبالتالي تستند عليها الحكومة عند وضع خططها في هذا المجال.
ماذا لو تغيرت النظرة العامة تجاه قطاع
الإسكان بحصرها في تخطيط وتوزيع
الأراضي مع أنها مهمة يمكن أن تقوم بها المجالس أو المؤسسات البلدية في المحافظات
والولايات ، وكذلك المساهمة في بناء بعض المساكن المتعلقة بفئة الضمان الاجتماعي،
مع أن مسألة المسكن صارت أحد مؤشرات ميزان التنمية
البشرية، وأن توفير المسكن بالإضافة إلى التعليم والصحة يشكلوا ثالوثاً اجتماعياً
مهماً لا يجب التفريط في أحدها.
وماذا لو
قامت الوزارة بكوادرها ومستشاريها وخبرائها وموظفيها بابتكار عشرات الحلول الفعلية
والناجعة لحل أزمة الإسكان (وهي كثيرة وناجعة) بدلاً من الاكتفاء بمنح قطعة أرض نائية
تزيد تكاليف دفع رسومها عن قيمتها الحقيقية.
ماذا لو ركزت برامج
التنمية الاجتماعية على حقيقة هامة وهي أنه في كل قرية في عمان توجد أسرة منتجة، بحاجة إلى من
يقف معها ويوجّهها، ويطوّر من قدرتها، ويسوق إنتاجها بشكل واقعي بعيداً عن البهرجة
الزائفة، وماذا لو قامت الوزارة المعنية بحصر
حقيقي للفئات المحتاجة للدعم الاجتماعي والاقتصادي في البلد، وتبنّت خططاً واقعية
لإيصال الدعم لهذه الأسر، ناهيك عن قضايا أخرى لا يتسع المجال للحديث عنها هنا.
ماذا لو كانت لدينا تكاملية في أدوار المؤسسات التي يهمها شأن المجتمع
المحلي، بدلاً من أن يغرد كل منها في سربه الخاص، وتكون النتيجة خططاً هزيلة تقترب
من الواقع ولا تلامسه.
آلام الآخرين لا يمكن أن تكون مسرحاً نستعرض فيه تمسّكنا
بالقيم، ومدى حرصنا على التكافل الاجتماعي، بعضاَ من الخطوات العلمية
الجادّة يمكن أن تسهم في حل كثير من هذه القضايا. والأهم هي الرغبة في ذلك.فقط ماذا
لو.