أشياء
كثيرة يمكن أن تجذبك في مدينة الألف مئذنة، والمتحف المفتوح لحضارات عريقة توالت
على هذه المدينة طوال سبعين قرناً من الزمان، وذكريات عديدة ستبقى في ذاكرة زيارتك
لها مهما طال الزمان أو قصر. هي المدينة الساحرة التي يعاودك الحنين إليها حتّى
ولو كنت قد حلفت في آخر مرةٍ أنّك لن تقترب من أسوارها، ولن تطأ قدمك ثراها! إنها
القاهرة الخالدة حيث النيل، والأهرام، وطعم الفول، وروائح البهارات، وأصوات المآذن،
وأجراس الكنائس وترانيمها، وحيث المقطّم بأساطيره، والجماليّة بحسينها وأزهرها، والغوريّة
بوكالتها العتيقة، وعماد الدين بمسارحه وسينماته، وطلعت حرب حيث جروبّي، وعمر
أفندي وصيدناوي وشيكوريل ومكتبتي مدبولي والشروق، وحيث شارع الهرم، وشبرا، ودار
الكتب، والمتحف المصري، ومتحف الآثار الإسلامية، وقلعة صلاح الدين، وغيرها من
المعالم التي حوّلت المدينة إلى كتاب تاريخٍ وفن ومتحفٍ ومعرض فنونٍ في آنٍ واحد!
في
قلب المشهد الحسيني وخان الخليلي حيث القاهرة الفاطميّة بعبقها الشرقي الأصيل، ورائحة البخور الذي لن تشمّه إلا في قاهرة
المعزّ، وكأنه ماركة مسجّلة باسمها، وحيث الأزهر الشريف قبلة العلماء والمتعلّمين
على مدى قرون طويلة، ومرقد الإمام الحسين، والمحلّات الشرقية التي مازال أصحابها
يتوارثون المهن اليدويّة من نحاسيات وجلود وعطور وغيرها في إصرار عجيب على
استمراريتها وكأنّها جزء من حياة، وحيث يختلط البشر فقيرهم وغنيّهم في تناقضٍ مؤلم! يقع مقهى
الفيشاوي أحد أشهر المقاهي العربيّة قاطبة، وأكثرها ذكراً في كتب الأدب والرحلات.
الطريق إلى المقهى من الميدان
الحسينيّ يمرّ عبر زقاقٌ ضيّقٌ زيّنت جنباته بقطع ديكور شاهدة على حضارة مصر
الفرعونية الضاربة في عمق التاريخ، وتصطفّ على جانبيه طاولات وكراسي
خشبية امتلأت بعشرات السيّاح الأجانب، وبعضٌ من أبناء البلد، ولوحات خشبيّة عدّة كتب عليها بالأزرق والأبيض والذهبي اسم المقهى
الذي أسّسه فهمي الفيشاوي عام 1797 من خلال ركن صغير ما لبث أن توسّع ليضم ثلاث
غرفٍ يوماً ما قلّصتها المحافظة بعد ذلك إلى حجمه الحالي، تعرّف بالمكان وكأنّه
بحاجة إلى من يعرفه أو يسأل عنه بعد أن طغت شهرته أرجاء المعمورة، وسار بذكره
الركبان، وقلّد اسمه المقلّدون في كل بقعة يوجد بها مصري، لكن شتّان بين الأصل
والنجاتيف!
يعدّ المقهى بكل ما يحتويه من تحف
وآثار وكأنه مُتحف شرقيّ، فهو يجسّد بشكل حقيقيّ حضارة المكان الذي أقيم عليه،
وكأنّه مصبّ لكل ما تنتجه مصانع وورش ومحلات خان الخليلي والموسكي والغوريّة، هناك
أربعة أبواب مفتوحة، وأقواس
ملوّنة بالأبيض والبنّي تفصل أركان المقهى عن بعضها، ومشربيّات من خشب أسود كأنّه
المسك، وأرابيسك ومشغولات خشبيّة تنمّ عن مدى الرقيّ الذي وصل إليه فنّ عمارة
الخشب في مصر، وفوانيس ونجف وثريّات ضخمة يبدو
أنها كانت يوماً ما تزيّن قصر أمير تركيّ، في الرفّ علّقت أواني قديمة يبدو أنها
كانت تستعمل في المقهى يوماً ما، في حين تزيّن المقهى من جوانبه مرايا بلجيكيّة
كبيرة يقال إن الحاج فهمي حصل عليها من
القصور الملكية التي كانت تجدد مفروشاتها وأثاثها، ويقال كذلك أن الحاج كان يراقب
من خلالها عماله! بينما توزّعت على جدرانه عدداً من الصور لصاحب المقهى ولشخصيات
عديدة من سياسيين وفنّانين وأدباء فهذه صورة الملك فاروق، وتلك أخرى لنجيب محفوظ
أحد أشهر روّاد المقهى والذي خلّده في رواياته الشهيرة، وثالثة لفريد الأطرش،
ورابعة وخامسة وعاشرة لفريد شوقي، ومحمد فوزي، وكمال الشناوي، وعادل إمام، وغيرهم،
وهناك صورة كبيرة
للحاج فهمي الفيشاوي وهو يمتطي حصانه.
لا يمكن زيارة مصر دون
أن يشتمل جدولها على زيارة مقهى الفتوّة في قلب الحسين وتذوّق طعم الشاي بالنعناع الذي يقدّم في إبريقٍ
زجاجيّ أزرقٍ داكن موضوع على صينيّة مذهّبة كعلامة جودة تميّز المقهى عن غيره
، فربما لن تجد مكاناً أجمل منه للتأمّل ومطالعة أحوال البشر مهما تمّ اغراءك
بمقاهي (مودرن)يطوف بها غلمانٌ متشيّكون، ومهما كان زحام الممرّ المجاور، ومهما
تردّدت على مسمعك عبارة "وسّع يا باشا"، ومهما تضايقت من (رزالة)المتسوّلين
وعارضي الكتب والحقائب والجلود والمسابح والعطور الرديئة بكلّ ثقل دمهم وإلحاحهم
الشديد، ستكون تلك الزيارة تجربةٌ غير قابلةٍ للنسيان، وستتداعى الذكريات كسيلٍ جارف، وتتراءى
أمام مخيّلتك صورٌ عديدة اختزنتها ذاكرتك من أفلامٍ، وأغانٍ، وكتبٍ، ومجلاتٍ،
وحكاوى معلمين شاهدة على تأثير هذا البلد
العظيم في نفوس العرب، وإسهامه الحضاريّ في نهضتهم وفكرهم.