اعتدت منذ صغري على تخيّل الشخوص والأماكن التي
تبهرني أو تترك أثراً في حياتي؛ وكنت أعيش لحظة الترقّب الدائم كي أحظى بفرصة
التعرّف عليها عن قرب، وكان المصوّر الكبير الأستاذ محمد مصطفى أحد هؤلاء الذين
بهروني، كيف لا وهو الذي كان اسمه يتردّد في مطلع كلّ صحيفة محلّيّة نطالعها، وفي
كلّ ملحق نهضويّ نطّلع عليه، وأسفل كلّ صورة رائعة تحكي ملمحاً من حياة أو انجازات
باني هذا الوطن العظيم، وهو الذي كنّا نغبطه دوماً لقربه من صاحب الجلالة، ونتمنّى
لو عشنا لحظة من لحظات حياته، وكانت أحلامنا تشطح أحياناً لدرجة تقمّص شخصيّته
فنتخيّل أنفسنا ونحن نمسك بالكاميرا لنلتقط هذه الصورة أو تلك! لذا كانت رغبتي في
لقاءه حلماً مؤجّلاً لسنوات عديدة، وفي داخلي شعور بأنّه سيتحقّق يوما ما آجلاً أم
عاجلاً، وقد كان.
وعندما
عرض عليّ سعادة الدكتور سعيد بن خميس الكعبي رئيس الهيئة العامّة لحماية المستهلك
مرافقته في زيارة إلى معرض
«ملامح من مسيرة عمان الحديثة» والمقام في القاعة
المخصصة سابقاً لمجلس عمان، أدركت أن اللّحظة التي كنت أنتظرها قد حانت أو اقترب
أوانها، وأنّ دعوة كهذه لم تأت من فراغ وأنا الذي أعلم مدى شغف واهتمام سعادته
الكبير بالمجالات الأدبية والفنّيّة والإنسانية؛ وأنه لم يكن ليقدّم لي الدعوة
لمرافقته ضمن مجموعة من زملاء العمل لولا يقينه بأننا سنرى شيئاً مختلفاً يليق
بالذّائقة، ويضيف الكثير لمكنونات النّفس، لذا لم أتردّد لحظة في الموافقة، وظللت
طوال الطريق أفكّر فيما سأراه، وهل سيحنو عليّ القدر بلقائه أم لا! وهل سأتجرّأ
وأطرح عليه شيئاً من أسئلة كانت مؤجّلة لسنوات طويلة أم أن الرهبة ستكون هي
العنوان!
عند وصولنا إلى قاعة العرض كان الانبهار هو الملمح
الأوّل الذي ارتسم على وجهي وأنا أطالع أمامي أكثر
من 700 صورة للمقام السامي لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم – حفظه
الله ورعاه– ترصد مسيرة النهضة المباركة، والدور الكبير الرائد لمولانا المفدّى في
بناء هذا البلد الغالي من أقصاه إلى أقصاه، وإنجازات جلالته الكبيرة التي شملت ربوع
هذا الوطن العزيز والتي ما زالت مستمرة حتى لحظتنا هذه كديمة تأبى فراق السّماء.
وبينما كان رفاقي مشغولين بمطالعة الصور والاستماع
إلى الشرح المتعلّق بها كنت أتلفّت يمنة ويسرة علّني ألمح الرجل الذي طالما حلمت بلقائه؛
وشعرت للوهلة الأولى بأن حلمي لن يتحقق، ذلك أنّنا انتهينا من رؤية اثنين من أجنحة
المعرض دون ظهور لصاحبه، وخشيت أن يطول الانتظار وأن أرجع بخفّي حنين وحذائه إلى
أن أسعدني القدر فجأة بقدومه وكأنه شعر بما تختلجه نفسي من رغبة ولهفة في اللّقاء،
فما كان منّي إلا أن تركت مكاني في الخلف ومعها هواجسي وتخيّلاتي لأتقدم في جرأة
إلى الأمام كي أقترب من الرّجل، وكي أتأمّله مليّاً، وكي أستمع إلى كلماته الهادئة التي كانت تخرج وكأنّها
ابتسامة ودودة لا مجرّد كلمات متوالية.
وعلى الرغم من اللحظات القصيرة التي أمضيتها بالقرب
منه، والتي مرّت سريعاً كما تمرّ كثير من الأشياء الجميلة في حياتنا إلا أنّني
أدركت أنّ من يقف أمامي هو شخصيّة استثنائيّة متفرّدة في أشياء كثيرة، وأنّ لهفة
اللقاء كانت في محلّها، فالرجل هو فنّان يعزف بعدسته، فما بالك لو امتزج هذا الفن
مع معايشة شخصيّات عظيمة أجمع العالم على روعتها، وانسانيّتها، وتأثيرها، لذا كانت
أوّل ملاحظة أرصدها (إن جاز لي ذلك) هي حالة الودّ العفويّ الصادق الذي يشعر به
كلّ من يقترب منه بابتسامته الودودة، وتواضعه الجمّ فلا تصدّق أنّك تقف بجوار شخص قضى
معظم حياته قريباً من اثنين من أبرز القادة العظام الذين أنجبتهم الأمّة العربيّة في
سنواتها الأخيرة، ونهل من معين فكرهم، وراقب عن قرب كثيراً من سماتهم الإنسانيّة،
وما تلبث رهبتك أن تزول ليحلّ محلّها شعور بأن هذا الرجل هو صديق قديم لا شخص تراه
للمرة الأولى قبل بضعة دقائق!
الأمر الآخر الذي بهرني وأنا أستمع إلى شرحه الهادئ
المتسلسل لملامح صوره هو ذاكرته القويّة التي لا تزال تحفظ كافّة تفاصيل صوره
الكثيرة من أماكن وشخوص على الرغم من مرور سنوات كثيرة على التقاط بعضها، وعلى
الرّغم من أنّ بعضها التقط في أماكن عابرة، ولشخوص قد لا تكرّر العدسة ملامحهم
مرّة أخرى، ولكنّ الفنّان الكبير يحفظ كل تلك التفاصيل كما يحفظ ملامح كفّه، بل
وينقل لك الكواليس المتعلّقة بالتقاط هذه الصورة أو تلك، ومناسبتها، وما ارتبط
بها، وما دار في مسرحها!
من الأشياء التي بهرتني كذلك هو حالة التسامح الجمّ
التي تملأ الرجل، ووفاؤه الكبير للأشخاص الذين اقترب منهم في لحظة ما، أو التقى
بهم أو عمل معهم يوماً من الأيّام، فعلى كثرة الأشخاص الذين احتوتهم لوحاته،
وبعضهم قد غادر دنيانا، أو ترك وظيفته التي كان بها إلا أن الرجل كان يذكر كل منهم
بالخير، ويحاول إظهار الجانب الجميل في شخصيّاتهم دون كلمة نقد أو حتّى ملحوظة
بسيطة قد تصدر منه، وهي حالة وفاء نادرة قلّ أن تجد مثيلاً لها في وقتنا الحاضر، وهذا
ليس بالغريب على من نشأ في بلاط المدرسة السلطانيّة، ونهل من معينها العذب!
ما أبهرني كذلك وأنا أتجوّل قريباً منه في أركان
المعرض الذي وددت لو يطول رواقه، وتتناسخ أركانه كي يمتد اللقاء، براعته الكبيرة
في انتقاء اللحظات المناسبة لالتقاط الصور، فهو لم يكن مجرد مصوّر بارع فقط، ولكنه
كان فنّاناً حقيقيّاً يشعر بمدى تأثير الصورة في النفوس، بل يمكنني القول إنّ عينه
تشبه العدسة، وأن الصورة تمرّ عنده بمرحلتين: العين المجرّدة التي تلتقط المشاهد
الحيّة لتتخّزن في الذهن؛ ثم تتفاعل هذه الصورة المخزّنة مع وجدانه وأفكاره
وانطباعاته لتخرج لنا بصورة جديدة، لذا يمكنك النظر إلى مجموعات صوره على أنها سرد
بصريّ متواصل يغنيك عن تفاصيل الكلام؛ فكل لقطة بحكاية، وكل صورة برواية كاملة،
وإذا كانت الصورة غالباً ما تعكس الشكل؛ فإن عدسة محمد مصطفى تدخل في ثنايا
الشخصيّة لتلتقط الداخل؛ وتركز على الجوانب الإنسانيّة المرتبطة به.
إنّ لوحات محمد مصطفى هي مثال حقيقي للمواطنة في وقت
نحن فيه أحوج ما نكون بحاجة إلى اللحمة والتقارب والتسامح، ويجب أن تلفّ على كلّ
قرية ومدينة كي يشاهدها كل عمانيّ وغير عماني، بل وتلفّ عواصم العالم المختلفة
كذلك، ففيها من دروس الإنسانيّة، والتسامح، والوفاء، واحترام الآخر ما يجنّبنا لو
أخذنا ببعضها كثيراً من المصائب التي تحلّ كل يوم على رؤوس البعض في هذا العالم
المترامي الأطراف نتيجة لتغليب مصالحهم الضيّقة على حساب مصالح وطن بأكمله، وفي
طيّاتها دروس كثيرة لمعنى التضحية من أجل كيان يدعى الوطن، كيان تعب قائده وضحّى
كثيراً كي يقيم كلّ ركن فيه، وكي تصل ثمار جهده إلى كلّ شبر يحتويه.
على مدار أربعة وأربعين عاماً متوالية كان محمد
مصطفى شاهداً حقيقيّاً وقريباً على حالة من الحبّ المتبادل بين القائد وشعبه في
وطن بني بالودّ، والتسامح، والثقة المتبادلة قبل أن يبنى بالطوب والحجر، ولعلّ
أصدق شهادة أختم بها هذا المقال المتواضع ما كتبه الزميل عبد الله الشعيبي في
جريدة الشبيبة في عددها الصادر بتاريخ 22 مايو 2013 "ما فعله محمد مصطفى،
طوال الأعوام الـ 43 الفائتة، هو رسم خارطة بصرية صادقة وصريحة ومباشرة للتاريخ
العماني، هي شهادة إن جاز وصفها، وبصمة إن جاز تأكيدها، تنفتح على المخيّلة
لاستكمال المشهد البصري في الصور الفتوتوجرافية، وتتكيّف مع الذاكرة الباحثة عن
أصول البناء والتحول في البيئة العمانية، سواء كان للعمانيين أنفسهم، أو للمقيمين،
أو للزائرين، على حد سواء".