كانت
زيارة تركيا بالنسبة لي مؤجّلة إلى أجل غير مسمّى، ففي كلّ مرّة أحزم حقائبي
وأستعدّ لقطع التذكرة يحدث ما يجعلني أؤجّل سفري إلى موعد آخر بسبب انشغالات
وهميّة يغلّفها الكسل والتردّد، وهكذا تمرّ الأيام والليالي ويبقى حلم زيارة هذا البلد
الجميل عصيّاً على التحقيق إلى أن وقعت ذات ليلة مغشيّاً عليّ من الإرهاق، وبدأ
جسدي وعقلي يعلنان تمرّدهما على المعاملة القاسية التي أعاملهما بها، فكيف لجسد
مهما كانت قدرته أن يستحمل انهاكاً يبدأ منذ الصباح الباكر ولا ينتهي سوى عند
الثامنة مساءً ، وكيف لعقل أن يتحمّل حراكاً فكريّاً دائباً يبدأ صباحاً مع مراجعة
أخبار الصّحف، وعصف ذهنيّ حول أفكار إعلاميّة جديدة، مروراً بكتابة مقالات
متعدّدة، وانتهاءً بتدريس جامعيّ ونقاش طلابيّ حول قضايا فكريّة مختلفة. لذا فقد
قرّرت الاستجابة لضغطهما ومطاوعتهما فيما يرغبان بعد أن طال تمرّدهما لمدّة تزيد
عن عشرة أيّام فقدت خلالها بضعة كيلو جرامات، وتكدّست من حولي أنواع من الأدوية
المهدّئة والمسكّنة والمليّنة وغيرها، فكان القرار المفاجئ قبل ليلة السّفر بيوم،
وكان الذّهاب إلى أقرب مكتب سفريّات أمراً حتميّاً لا يمكن الرّجوع عنه.
هكذا
إذاً قرّرت السفر، وكانت اسطنبول وجهتي المختارة لأسباب عدّة لعلّ من بينها: رغبتي
في زيارة أوروبّا بأسهل طريقة ممكنة دون تعقيدات الحصول على (الشنغن)، القيام
بتجربة سفر جديدة لا تشمل الدول العربيّة أو الآسيويّة كوني قد زرت كثيراً منها،
وتعرّفت على معالمها المختلفة، هاوي التاريخ الذي في داخلي والذي ما طفق يحلم
بتتبّع ملامح إبهار الحضارات المتعاقبة على تركيا أو آسيا الصغرى، أو بلاد
الأناضول منذ أن درسها لأول مرّة في سنته الجامعيّة الأولى وحتّى آخر حديث سمعه من
صديق كان قد زارها قبل بضعة أسابيع، ملامح الطّبيعة البكر والمناظر الخلابة التي
كانت تلاحقني في كلّ موقع أفتحه، أو كلّ منتدىً أزوره.
لهذه
الأسباب وغيرها قرّرت زيارة تركيا مكتفياً بإسطنبول وما حولها نظراً لقصر مدّة
الرحلة، وتخوّفاً من البرد المجهول الذي لا أعلم عنه شيئاً، فأنا قد جرّبت برد
آسيا القريبة، وافريقيا العربيّة ولكنّي لم أجرّب بعد برد أوروبّا، كما قد قرّرت
أن تكون رحلة استثنائيّة أكون فيها أقرب إلى (البوهيميّ) تاركاً كلّ شيء للظروف،
فكم من مرّة قد حلمت أن أعيش تجربة سفر مختلفة أحمل فيها حقيبتي على كتفي، وأنزل
في أقرب (بنسيون) يصادفني، وأمارس هواية التسكّع من شارع لآخر، ومن مقهى للثاني،
وأن أستعيد هواية المشي لمسافات طويلة والتي تركتها منذ أن فارقت القاهرة، وأن
أركب عبّارة بحريّة تحملني بين الجزر الخضراء بينما تتلاعب نسمات الهواء الباردة
بما تبقّى لي من شعر، وأن أتناول إفطاراً صباحيّاً على تلّة خضراء تطلّ على قرية
حالمة، حاملاً معي (نوتة) صغيرة أدوّن فيها ملاحظاتي حول الأماكن، والبشر، وملامح
الحياة المختلفة.
وكعادتي
قبل كلّ رحلة سفر أقوم بها إلى دولة أزورها لأوّل مرّة فقد قضيت ساعات طوال وأنا
أتنقّل من موقع إلكترونيّ لآخر، أتعرّف فيها على تاريخ المكان، وآثاره، وأماكن
السّكن المتاحة، وأحاول استيعاب خريطة البلد، كما تبرّع العديد من الأصدقاء
والمعارف بتقديم خبراتهم السابقة حول أماكن السكن المقترحة، وطبيعة تعامل الناس
هناك، وأهم المحاذير التي ينبغي مراعاتها، وخرجت منهم باستنتاجات عامّة أهمّها أن
البلد جميل ولكنّ الحياة غالية والأسعار مرتفعة، وشعبه متجهّم غير بشوش، مع بضعة
محاذير أمنيّة أخرى، لذا كنت متخوّفاً من أن يحدث ما يعكّر صفو رحلتي، وحملت معي
مبالغ كبيرة تحسّباً لأيّ طارئ، ووزّعت مبالغ أخرى على أكثر من حساب تخوّفاً من
عطل قد يطرأ على إحدى البطاقات، وهي متلازمة تشمل تعطّل جهاز الصوت قبل بداية أيّ
حفلة، وتعطّل الطّابعة عند الرغبة في طباعة أيّ شيء مهمّ وعاجل، وعدم العثور على
مفتاح الغرفة سوى بعد استنفاذ استخدام بقيّة المفاتيح في السلسلة!
عند
وصولي إلى مطار أتاتورك ووسط بحيرة من المخاوف المرتبطة بالمجهول كوني أزور بلداً
لأول مرّة دون رفيق أو سابق تجربة فوجئت بأن استخراج فيزا الزيارة لم يستغرق أكثر
من نصف دقيقة، ولم تتعدّ مدّة الإجراءات الأمنيّة أكثر من دقيقتين، بينما لم يطل
انتظاري لحقيبتي أكثر من عشر دقائق حينما أتاني أحد رجال الأمن ليخبرني بأن مدّة الانتظار
انتهت وأنّ حقيبتي ربّما لم تصل بعد، وأخذني إلى مكتب شركة الطيران القريب كي
أحرّر شكوى حول أسباب تأخر الحقيبة الذي بدوره تواصل في اللحظة مع المكتب الرئيسي،
وتم وعدي بأن تصل في الرحلة اللاحقة وسيتم ايصالها إليّ في عنوان اقامتي بإسطنبول.
كان
ما حدث لي في المطار أمراً ايجابيّاً أشعرني بأنّ القادم أفضل، وبأنّ الدولة التي
تحرص على أن لا يعاني زوّارها على ردهة بابها فهي دولة حريصة على أن يقضوا بقيّة
أوقاتهم فيها بلا منغّصات قد تؤثّر على تجربة زيارتهم لها، كما أنّ كان تأخر
الحقيبة كان عاملاً مساعداً بالنسبة لي فقد حرّرني من ثقل كان سيعرقل حركتي
وانطلاقتي وأنا الذي أتيت كي أعيش تجربة مختلفة، لذا فقد قضيت وقتاً في استكشاف
المطار ومرافقه المختلفة، ثمّ بدأت أبحث عن وسائل التنقّل المتاحة إلى المدينة في
ظلّ ما سمعته عن ارتفاع أسعار التكاسي إلى أن لمحت لافتة تدلّ على مكان تواجد
الحافلات التي تقلّ السيّاح إلى مركز المدينة، وأخرى تشير إلى مترو الأنفاق في
الدور الأرضيّ من المطار، فقررت استخدام المترو كي أستكشف أكبر قدر من المدينة مع
مطلع الفجر وحيث المدينة ما زالت غافية لم توقظها شمس الصباح بعد!
ولأنّني
معتاد على ركوب المترو كونه كان وسيلة المواصلات الرئيسة بالنسبة لي طوال أربع
سنوات من إقامتي في القاهرة فلم أواجه أيّة مشكلة في استخدامه، بل على العكس
تماماً فقد كانت خرائط توزيع المحطّات التي يصل إليها موجودة في كلّ مكان، وعرفت
من أوّل وهلة المسار الذي سأتبعه من المطار وحتى ميدان (تقسيم) الذي سيتوقّف عنده
مساري كونه مركز المدينة، وكون أن الكثيرين قد نصحوني بأن أبدأ منه رحلتي، وأن
أتّخذ من أحد الفنادق المتناثرة على شوارعه الجانبيّة مكاناً لإقامتي.
عن
طريق مكينة صغيرة استخرجت تذكرة الركوب وكانت في حدود النصف ريال، وكلها ثوان ووصل
القطار الذي سأستقلّه، وكان نظيفاً ولكل راكب مقعده دون أي تزاحم أو تدافع أو
تلاصق، كما أنّ المذيع الداخلي كان ينادي على اسم المحطّة القادمة قبل الوصول
إليها، إضافة إلى وجود لوحة الكترونيّة مضيئة تحوي أسماء المحطّات التي سيمرّ
عليها القطار مما يجعل ركوب المترو أمراً يسيراً على من يستخدمه لأوّل مرة.
في
محطّة (تقسيم) نزلت، وفي ميدانها الشهير وقفت أتأمّل نصبها التذكاريّ الشهير الذي
لطالما لمحت صورته في بعض وسائل الإعلام، وأبهرني منظر حمامها المنتشر في أرجاء
الميدان يلتقط في سكينة بعض الحبوب التي يلقيها إليها بعض المارّة ، وسرحت مع
الشوارع الغافية التي تنتظر قدوم الصباح كي تعجّ بالحياة، وانتقلت إلى الشرق حيث
الأزهر والحسين والغوريّة مع صدى أذان مساجدها، ورخامة نغمة صوت مؤذّنيها وكأنّني
في قلب القاهرة الفاطميّة لا في وسط اسطنبول. ومن هنا ستبدأ أولى مغامراتي في
شوارع اسطنبول، ولكن تلك حكاية أخرى.