قال لي: في ظلّ الظروف الاقتصاديّة الحاليّة التي
نمرّ بها، والحديث الكثير عن الحلول المطروحة لتجاوزها، أريد رأيك كمتابع لهذا الموضوع.
أجبته: لا أدّعي أنّني متخصّص في مجال الاقتصاد،
ولكن دعني أطرح وجهة نظري كمواطن يهمّه الأمر كثيراً لأسباب كثيرة أقلها هو
التفكير في مستقبل أبنائي في الفترة القادمة.
برأيي أنّ هناك عدّة إشكالات ترسم وضعنا الاقتصاديّ
الحالي أولها هي عدم وجود موارد دخل مستدامة تضمن لك دخلاً يغطّي كافّة النّفقات
المختلفة ويحقّق التوازن بين الدّخل والمصاريف، فنحن نعتمد في الغالب على مورد
طبيعي واحد معرّض للنضوب أو انخفاض الأسعار، أو أيّة اشكالات قد تواجه تصديره أو
تسويقه، أو دخول مصادر طاقة أخرى منافسة.
الإشكالية الثانية هي الاعتماد على الدولة في
التوظيف وهذا يتعارض مع المفهوم الأول للإنفاق المستدام، فأعداد الباحثين عن العمل
يتزايدون كل سنة، والوظائف الحكوميّة لا تحقّق الاستفادة القصوى من هذه القدرات
البشريّة لأسباب كثيرة مختلفة، والقطاع الخاص في وضعه الحالي لا يشكّل عامل جذب
قويّ لهؤلاء الشباب، إضافة إلى محدوديّة أنشطته وضعف امتيازاته في عمومه مقارنة
بما تحقّقه الوظيفة الحكوميّة.
الإشكالية الثالثة هي في احتماليّة وجود خلل في ميزان
المدفوعات؛ بمعنى أن البضائع والسلع الداخلة إلى البلد يتم شراؤها من الخارج
بعملات أخرى غير الريال؛ وهذا يعني أهمية وجود عمليات تصدير توازي أو تزيد عن حجم
الاستيراد؛ وإذا كان ميزان المدفوعات في الوقت الحالي إيجابي بسبب اعتمادنا على
تصدير النفط فهذا يعني أنه في حالة انخفاض مستويات التصدير وعدم وجود بدائل أخرى فسيتعرض
الميزان للخلل. لاحظ أنّ
الاعتماد في كل النقاط السابقة هو على النفط فقط لتغطية العجز فيها.
قال لي: وماذا عن الحلول والاجراءات التي تطرح
الحكومة بعضها وينادى بالبعض الآخر كلّ يوم من ايقاف التوظيف إلا للضرورة، وخفض
الدّعم المقدّم لبعض القطاعات، ورفع نسبة الضرائب على الشركات العاملة، وعرض بعض الأراضي للبيع في مزادات عامّة، وزيادة
بعض الرّسوم، أو التقشّف في بعض البنود وغيرها من الاجراءات؟
أجبته: كلّ هذه الحلول قد تبقى حلول مؤقّتة وغير
مستدامة، فالشركات قد توقف جزءاً من انتاجها في حالة فرض ضرائب مرتفعة، وقد تبحث
بعض المشاريع الاستثماريّة عن وجهات أخرى مناسبة، والأراضي التي سيتم عرضها للبيع
قد تنفد في يوم من الأيام، وقس على ذلك بقيّة الخطوات والاجراءات، كما أنّ تخفيض
الدعم المقدّم للقطاعات المختلفة قد يخلق مشكلة أخطر، فإلى متى سنتوقف عن التوظيف؟
وكيف سندعم المشاريع المحلية.؟! كثيراً من الخطوات السابقة (لوحدها)غير
عمليّة وقد تخلق موارد غير مستدامة تغطي لمدة محدودة ثم تنفد.
سألني: ربّما تشاركني الرأي في أنّ من أهم الحلول هو
فتح باب مجال الاستثمار الخارجي خاصّة إذا ما علمنا المميزات التي تتمتّع بها
السلطنة في هذا المجال من توافر بنى تحتيّة مناسبة، واستقرار سياسي، وغيره.
قلت له: مع أهميّة فتح باب مجال الاستثمار الخارجي
وما سيحقّقه من منافع اقتصاديّة مختلفة إلا أنّ مشكلتنا ليست في الحاجة
للاستثمارات الخارجي، بل على العكس فهناك أموال
كثيرة في البلد وبحاجة إلى من يشغّلها ويستثمرها بشكل مناسب، ولديك على سبيل
المثال السيولة الماليّة لدى بعض الأفراد العاديّين قبل التجار وأصحاب رؤوس
الأموال، بالاضافة إلى صناديق التقاعد المختلفة، والتحدي الأهم هو تشغيل هذه
الأموال في خلق شركات ومؤسسات قادرة على خلق اقتصاد حقيقي؛ ومعظم الصناديق الحالية
غير مغامرة في مشاريع كبيرة، بل تكتفي بالاستثمار في مشاريع مضمونة لا تتطلّب
تحدّياً كبيراً كشراء شركات ناجحة، أو الاستثمار في قطاعات بسيطة خاصة في مجال
العقار أو مجالات تجارة التجزئة، وهي قطاعات لا تحقق فوائد ماليّة كبيرة أو فرص
عمل متنوّعة.
قال: إذاً ما هو الحل من وجهة نظرك؟
قلت له: الحل الوحيد المستدام هو اعتماد الدخل
على الضرائب بجميع أنواعها. أعرف أنّ حلاً كهذا قد لا تقتنع به، وقد لا يتقبّله
الكثيرون ولكن دعني أوضّح لك ماذا أقصد بمسألة الضرائب: دعنا نتّفق أولاً على
أنّ الهدف للنهوض بهذا المجال هو خلق بيئة اقتصاديّة قادرة على توفير وظائف تخلق
الحد الأدنى من الأمان الاجتماعي من خلال توفير مصادر دخل مستدامة، ولتحقيق ذلك
يستدعي الأمر عدّة خطوات تشكّل جميعها حلقات متكاملة في سلسلة واحدة، ودعنا نبدأ
بالتعليم، وهو
لا يقتصر على التعليم المدرسي فقط بل يتجاوزه للتعليم الفنّي بأنواعه والعالي
والتعليم على رأس العمل؛ والمؤهلات لا تقتصر على الوظائف العليا بل تتجاوزها
للوظائف الحرفية؛ فهل نظام التعليم لدينا أخرج لدينا حرفيين مؤهّلين للعمل في القطاعات الحرفيّة
المختلفة طوال الفترة الماضية؟! كم حلاقاً أو حدّاداً أو نجّاراً أو سمكريّاً أو
ميكانيكيّاً محترفاً لديك من الشباب العماني؟! إنّني أعرف حلاقاً وافداً محترفاً
أتعامل معه لا يقل دخله الأسبوعي عن 700 ريال، والحجز لديه بالمواعيد، لأنّه حرفيّ
متخصّص، ومنظّم في عمله، دقيق في مواعيده. قس على ذلك الكثير من الحرفيّين الأخرين
في مختلف المجالات. لاحظ أنّ الوظيفة أو الحرفة التي يغطيها الوافد نخسر من خلالها
وظيفة للعماني؛ ومبلغ يحول للخارج !
نحتاج كذلك إلى الحدّ من الإجراءات البيروقراطية مثل
إجراءات تأسيس الشركات ووجود بيئة قانونية ذكية ومبسطة تشجع على الاستثمار، فإذا
كانت هناك شركات حكومية تعاني من البيروقراطية في تأسيسها على الرغم من صدور
مراسيم وقرارات عليا خاصّة بانشائها فما بالك بالشركات الخارجية أو المستثمر
المحلّي الصغير؟! فكل ما كانت التشريعات أقلّ عدداً، وأكثر مرونة وتوافقاً مع
الظروف الحاليّة كل ما كانت دورة الاقتصاد أكثر جدوى وفائدة.
نحتاج أيضاً إلى استغلال قطاعات الزراعة والصيد في
مشاريع أكثر جدوى وفائدة، فعلى سبيل المثال بدلاً من أساليب ووسائل الصيد التقليديّة
الحاليّة، والمشاريع المحدودة فلماذا لا يكون لدينا أسطول لأعالي البحار كما هو
الحال في دول أخرى ذات مناخ اقتصادي مشابه في هذا المجال؟ ولماذا لا نتوسّع في
رقعة الأرض المزروعة، وكل هذا يأتي من خلال توفير بيئة عمل واستثمار مناسبة
كاستغلال مخرجات الكلّيّات المتخصّصة، وتوجيه الدّعم بشكل مناسب، وتأسيس بيئة
تأمينات اجتماعيّة تشجع العاملين في هذه المجالات على العمل بها دون الخوف من
المستقبل، وتكوين جمعيّات عماليّة توفر الأمان الاجتماعي والقانوني لهذه الفئات.
نحتاج إلى استغلال موقعنا الجغرافيّ الوسيط على خارطة
العالم كمنطقة دعم لوجستي، فلو فعّلنا الكيان الخاص بتجمّع الدول المطلّة على
المحيط الهندي وحاولنا ايجاد شراكات مع دول متقدّمة في هذا الكيان كأن نمزج طاقة
عمان من النفط أو الغاز مع أراضي الهند وعمّالها، وتكنولوجيا سنغافورة، وخبرات
جنوب أفريقيا الصناعيّة مثلا لخرجنا بالعديد من المشروعات المستدامة، ولو استفدنا
من اتفاقية (عشق أباد) القائمة على ربط مناطق الجمهوريات المستقلّة بالبحار
الدافئة في الخليج من خلال نقل البضائع عبر ايران مستغلين علاقاتنا الجيّدة معها،
أو تحويل السلطنة إلى مركز لتجميع اليوريا الاوزبكي وإعادة توزيعه فيما بعد لفتحنا
آفاقاً اقتصاديّة أخرى، ناهيك عن موقعنا الذي يوفّر الوقت والتكلفة ورسوم التأمين
الخاصّة بعبور مضيق هرمز.
وبالطبع نحتاج إلى الاستفادة من إرثنا الحضاري
المتمثل في الشواهد الماديّة المختلفة، وبيئتنا المناخيّة المتنوّعة في تأسيس
أنشطة اقتصاديّة وسياحيّة قائمة على استثمار كل هذه الامكانات.
قال لي: ماذا تريد أن تقول بالضبط؟
الخلاصة يا صديقي هي أنّه إذا نجحنا في تكوين اقتصاد
من مؤسّسات خاصّة متنوّعة من خلال رؤية واضحة، وتشريعات مرنة، وتعليم قائم على خلق
جيل قادر على دخول سوق العمل فإنّ هذه الكيانات قادرة على دفع ضرائب تسهم في وجود
دخل حكومي مستدام؛ وتوفير وظائف مناسبة؛ وسيتم توجيه جزء كبير من نتاج هذه
المؤسّسات والكيانات إلى نشاطات تصديرية تسهم في ميزان مدفوعات متوازن أو ايجابي
لصالح الصادرات على عكس الواردات.